فى نفس الوقت الذي غرق فيه جنرالات إسرائيل فى نشوة النصر الذي حققوه فى حرب 1967م , كان عشرات المهاجرين يتوافدون على إسرائيل بعد أن تأكدوا ذلك النصر لا رجعة فيه , وان إسرائيل ستصبح جنة الله فى الأرض كما وعدتهم الدعاية الصهيونية
و بمنتهى العناية والدقة كان الأمن الاسرائيلى يفحص أوراق الوافدون للتيقن من هوياتهم وجنسياتهم , ومن بين هؤلاء كان ( دافى كرينهال ) مهاجر سوفييتي نحيل الجسم وضعيف القوة يثير الشفقة بملابسه الرثة وحقيبته البالية وربما لهذا لم يعيره الأمن اى انتباه , ليتسلم بعدها أوراق إقامته فى إسرائيل ويتم توزيعه مع المهاجرين الجدد الذين لا يمتلكون مهارة أو خبرة فى مجال مهم إلى احد المزارع أو ( الكيبوتز ) ليعملوا بالزراعة إلى أن يتم توفير فرصة عمل مناسبة لهم وهو مالا يحدث بالطبع..
ولمدة ثلاثة أشهر اخذ دافى يقص حكايته على جميع زملائه المهاجرين , فهو يهودي سوفيتي اعتقل الحزب الشيوعي والده وهو مازال فى الحادية عشرة من عمره ولم يره مرة أخرى حتى توفيت والدته وصحبه رجل يوغسلافي إلى تركيا وهناك ركب احد السفن القادمة إلى إسرائيل ممنيا النفس بأن يحقق أحلامه فى ارض الميعاد
ولقد تعاطف الجميع معه خاصة وهم يرون ضعفه الواضح وعدم امتلاكه اى مهارة أو موهبة تؤهله للنجاة فى هذا المجتمع القاسي , حتى كانت تلك الليلة عندما كان جالسا مع رفاقه ويتحدث مع جارته الفاتنة ( راشيل ) وأمها العجوز ( استير )
وفجأة زاغ بصره وشردت ملامحه وهو يقول بصوت عميق :
- لقد اخطأ ( يارون بلونسكى ) كثيرا عندما رفض الاعتراف بما فعل , لقد شعر بالخزي و الندم وقرر أن يدفع الثمن … وسيدفع قريبا !!

وتسمرت راشيل وأمها فى مكانها من هول الصدمة فقد كان يارون بلونسكى هذا السبب فى هجرة أسرة راشيل من العراق عندما ارتبط مع ابنتهم راشيل بقصة حب تطورت إلى علاقة غير مشروعة ونتج عنها حمل سفاح , ولم يكد يارون يعلم به حتى استنكره تماما و رفض الاعتراف به وابتعد عن راشيل تماما ثم لم يلبث أن فر من بغداد ومن العراق إلى جهة مجهولة تماما وبذلت أسرة راشيل جهدها لإخفاء هذا الأمر كليا
ولهذا كانت صدمتهم عندما سمعوا القصة على لسان ذلك المهاجر السوفيتي الذي قال قولته واغشي عليه وسط ذهول زملائه , وبعد أن أفاق حاولوا أن يستفسروا منه عن ذلك التصرف إلا انه اخبرهم انه لا يتذكرانه قال شيئا من ذلك . وكان من الممكن أن ينتهي الأمر عند هذا الحد , إلا انه وفى الأسبوع التالي مباشرة تلقت راشيل رسالة من أوروبا وبداخلها شيك بمبلغ ضخم يمكن صرفه من اى بنك فى إسرائيل ويحمل توقيعا كاد قلبها أن يتوقف لرؤيته : يارون بلونسكى , وعلى ظهر الشيك كانت عبارة ( تقبلي اعتذاري ) بخط يارون نفسه !!!
وطارت الأسرة فرحا بهذا المبلغ الضخم واخذوا يقصون على الجميع نبوءة دافى التي تحققت , دون أن يتطرقوا لعلاقة يارون براشيل , وانتشر أمر النبوءة فى المزرعة واخذ الجميع ينظرون فى انبهار إلى دافى الذي استنكر كل ذلك واخبرهم انه لا يعلم شيئا , وفى سهرة صاخبة فى نهاية الأسبوع فاجأ دافى الجميع بنبوءة أخرى عندما زاغ بصره وشردت ملامحه وقال لهم : خسارة أن يتلف محراث جميل كهذا !!!
ثم عاد إلى وعيه وأنكر تماما انه قد قال اى شيء وانطلق الشباب يفحصون كل المحاريث فى المزرعة والتي كانت جديدة تماما ثم عادوا ليعلنوا أن المحاريث بحالة جيدة وليسخر الجميع من نبوءة دافى العجيبة , ولكن فى اليوم التالي مباشرة انكسر المحراث الرئيسي فى المزرعة دون اى سبب , لينظر الجميع إلى دافى فى ذهول , وينتشر خبر ذلك العراف فى المزرعة والمزارع المجاورة ويبدأ الناس فى التوافد عليه لرؤيته و ليطلبوا منه أن يخبرهم بأي نبوءة مستقبلية لهم , ورغم أن الشاب كان يرفض ذلك تماما إلا انه فى بعض الحالات كان يروح فى تلك الحالة العجيبة من الشرود ويدلى بنبوءة هنا وهناك تتعلق بماضي احد الحاضرين أو مستقبله
مما أكد للجميع انه لا يتحكم فى موهبته ولا يعلم عنها شيئا , ومع الوقت خرج الأمر من حيز المزارع الريفية البسيطة إلى ارض أكثر صلابة ليفاجأ دافى ذات يوم بضيف من ذوى السترات الرسمية يطلب مقابلته , ليخبره أن يستعد للسفر إلى ……تل أبيب !!!
وفى الطريق إلى تل أبيب فى تلك السيارة الفارهة التي يقودها نفس الشخص الذي زاره فى المزرعة وبجانبه شخص أخر برتبة اكبر , اخذ دافى كرينهال يتذكر كيف بدأت تلك القصة
وفى نفس اللحظة وعلى بعاد مئات الأميال وفى قلب العاصمة التي لا تنام أبدا : القاهرة , اندفع مسئول الشفرة إلى مكتب رجل المخابرات الشهير ( امجد ) وهو يقول له : لقد ابتلعوا الطعم , واستدعوه إلى تل أبيب.

و ليبدأ الجزء الثاني من العملية الجنونية التي وضع امجد خطتها بنفسه ..عندما التقى مصادفة بذلك الشاب ذو الثياب الرثة التي تدل على فقر شديد انعكس على صاحبها الذي بدا شاحبا إلى أقصى حد وان لم يمنع ذلك تلك النظرة العبقرية التي تطل من عينيه , والتي استغلها الشاب فى التحايل على البسطاء ليحصل على قوت يومه عن طريق إقناعهم بأنه ( شخص مكشوف عنه الحجاب ) وكان لملامحه الغريبة اكبر الأثر فى ذلك , وليتلقفه امجد ليتعرف عليه وليعرف منه قصته الحزينة..
اشرف فؤاد الطحان ..شاب مصري, كان والده فؤاد الطحان من أسرة مصرية بسيطة اقتطعت من قوت يومها لتعليم ابنهم الأكبر فؤاد وليحصل على شهادة الهندسة أملا منهم فى أن يرفع مستوى عائلتهم الاجتماعي.

ويلتقي فؤاد الطحان بالأوكرانية ( هيلجا بتروفا ) ويرتبط الاثنان بقصة حب عنيفة لم يستطع والدها الذي يعمل فى احد الدواوين الحكومية المصرية أن يعرقلها , لتنتهي بزواج الاثنان وكان اشرف هو ثمرة ذلك الزواج , ولم يكتب الله لفؤاد أن يرى ابنه قط .
فمات فؤاد فى حادث اليم قبل ولادة اشرف بيوم واحد , ويولد الطفل يتيما ولا يعرف عن أبيه ألا تلك الصورة المعلقة فى صالة دارهم والتي تعود أن يشاهد أمه يوميا وهى تبكى بجوارها
وحتى العاشرة من عمره تعود الطفل على أن يقضى الشتاء فى كنف أمه وجده السوفيتي , والصيف فى مصر مع عائلة أبيه , وهكذا نشأ الصبي وهو يجيد التعايش مع العادات السوفيتية والتحدث باللغة الروسية بلهجة أهل أوكرانيا , بالإضافة إلى عشقه لمصر وتحدثه باللغة العامية.
وفى الحادية عشرة من عمره تتوفى والدته , ليأخذه جده إلى أوكرانيا خلسة بسبب تمسك أهل والده به , وهناك عانى الصبي بسبب فراق مصر وأهل أبيه , واخذ فى النحول والانطواء
وعندما كبر أشرف استطاع الهروب من القبضة الحديدية السوفيتية وظهر فى الإسكندرية وذهب إلى منزل أهل والده وكانت المفاجأة أن المنزل كان قد انهار دافنا معه كل أفراد الأسرة باستثناء ابنة عمه (وفاء ) والتي كانت تراسله أثناء وجوده فى أوكرانيا وكان يكن لها حبا كبيرا , واخذ يبحث عنها فى كل مكان ولم يجدها بعد أن اختفت من الحي الذي نشأت فيه واسودت الدنيا فى وجهه وانتهى به الأمر وهو بتسول لقمته فى المساجد , إلى أن تلقفته ايدى المخابرات المصرية.
دارت كل تلك المشاهد فى رأس ( دافى كرينهال ) أو ( اشرف فؤاد ) وهو جالس فى تلك السيارة التي تقله إلى تل أبيب , وبعد ساعة أو يزيد توقفت السيارة أمام مبنى كبير أنيق وانزله مرافقه منها فى شيء من الصرامة وقاده إلى صالة ذلك المبنى الأنيق , وبعد دقائق فوجئ بامرأة أنيقة ممتلئة الجسم تقول له : أأنت دافى كرينهال ؟ تماما كما وصفوك
كانت تلك المرأة هي زوجة الجنرال ( كوهين ) احد قادة الجيش الاسرائيلى , والتي طلبت إحضار دافى بعد ذيوع صيته وشهرته فى تلك الفترة التي كان المجتمع الاسرائيلى غارقا فى شهوة النصر وجذبت الجميع أضواء الشهرة وحب الظهور واخذ كل منهم يبحث عن شيء جديد ليتفرد به ببن أقرانه , وفى مساء تلك الليلة تم إعداد دافى كرينهال للحفل الذي تقيمه زوجة الجنرال "كوهين" , والذي يحضره زوجات الجنرالات الآخرين والجنرالات أنفسهم والذين لم يعيروا دافى اى انتباه على اعتبار انه مجرد موضة وسوف تزول
وكان الانبهار يملأ دافى من داخله فقد كان كل ذلك قد اخبره به رجل المخابرات المصري امجد منذ كان فى القاهرة فى أثناء فترة إعداده مما أعطاه ثقة كبيرة وراح يختلط بالحاضرين وجلس فى وسط زوجات الجنرالات يستمع لأحاديثهم وهم فى انتظار أن يلقى بأحد تنبؤاته , وفجأة راح فى تلك الحالة التي كان يجيد تمثيلها
ونظر فى اتجاه زوجة سكرتير وزير الصناعة وقال لها : قصة ميراث بلغاريا لا أساس لها من الصحة , وانطلق يخبرها عن الكثير من أحداث ماضيها والذي لا يعلمه احد ثم ختم حديثه بعبارة : ولكن زوجك يواجه خطرا كبيرا جدا ..ووسط ذهول الجميع اعترفت زوجة السكرتير بصحة كل ما قاله دافى ,
وفى صباح اليوم التالي وصلت إلى النائب العام الاسرائيلى كومة من الملفات والوثائق التي تثبت تورط سكرتير وزير الصناعة الاسرائيلى فى وقائع فساد ورشوة واستغلال نفوذ , وكانت فضيحة كبرى فى إسرائيل , وقنبلة انفجرت حول دافى الذي أصبح العراف الرسمي لجنرالات إسرائيل , وجدير بالذكر أن كل النبوءات كانت من إعداد المخابرات المصرية التي نشرت شبكة كاملة حول دافى لتمده بكافة المعلومات التي يستطيع استغلالها بموهبته الفطرية فى إلقاء النبوءات بدءا من نبوءة راشيل ويارون والتي تكبدت المخابرات المصرية المشقة فى سبيل العثور على يارون وإقناعه أنهم أهل راشيل وإجباره على توقيع الشيك والاعتذار وأيضا حادثة المحراث التي دبرها عميل أخر كان يعاون دافى فى نفس المزرعة وانتهاء بنبوءة سكرتير وزير الصناعة الذي فضحته المخابرات المصرية…

Post a Comment