كتب كافكا رواية "المسخ" قبل أن يتجاوز عامه التاسع والعشرين، وهو نفس العمر الذى كتب فيه فلوبير رائعته "مدام بوفارى"، بينما كتب هيمنجواى "الشمس تشرق أيضا" وهو فى السابعة والعشرين من عمره، أى أصغر بعام وحيد من فيتزجيرالد حين كتب تحفته "جاتسى العظيم"، وأنهى توماس مان روايته "عائلة بودنبروك" الحائزة على جائزة نوبل وهو فى الرابعة والعشرين من عمره، أما جين أوستن فقد أنهت المسودة الأولى من روايتها "عقل وعاطفة" وعمرها لا يتجاوز العشرين عاماً ثم شرعت بعدها بعام واحد فى كتابة روايتها الأشهر "كبرياء وتحامل"، والأمثلة كثيرة عن عظماء قدموا روائع أعمالهم فى سن صغيرة.
يصل دولان إلى
قمة النضج والتوهج الفنى بفيلمه الأخير "أمى" الحاصل على الجائزة الكبرى
من لجنة تحكيم مهرجان كان فى نسخته الأخيرة للعام 2014 مناصفة مع فيلم
"وداعاً للغة" للمخضرم جان لوك جودار، فى مفارقة تجمع بين أكبر وأصغر
مخرج فى المسابقة من حيث العُمر، وهى مفارقة تعبر دون قصد عن أن ما يتطلبه الأمر
لتصبح فنانا عظيماً هو أن تشعُر .. تشعُر أكثر من الآخرين .. فالشعور
يسبق حتى التفكير ولا يعترف بالعُمر.
"أمى" دراما إجتماعية
تبدأ حين تضطر الأم "ديانا ديبرى" لإخراج ابنها "ستيف" من الإصلاحية
ليعيش معها فى المنزل فهى لا تستطيع تحمل نفقات إلحاقه بأحد مراكز التأهيل
التى تعالج الاضطراب العقلى الذى يعانى منه الإبن والذى يجعله فى أحيان عنيفاً
لدرجة قد تسبب مأساة له ولمن حوله. تعانى الأم أيضاً من مشاكل على الصعيد العملى
والعاطفى والنفسى تجعل من أمر احتوائها لابن ذى قدرات خاصة أمر شديد العبثية.
يتغير الموقف عندما تدخل الجارة "كيلا" فى حياة الأم وابنها ما يسهل
المهمة على الأم بعض الشىء ولكنه يزيد الأمر تعقيداً فى ذات الوقت.
الظاهر هو أنها
القصة الأكثر محافظة فى تاريخ دولان نظراً لابتعادها هذه المرة عن تناول التابوهات
الجنسية، وهو ما يفاقم التحدى عليه ويجعله أمام اختبار يتطلب الحفاظ على
منهجه الصادم بدون وسائل مساعدة ترتكز على جدلية الموضوع، وهو أول الاختبارات الى
ينجح فيها دولان بامتياز يوصله لذروة توهجه ونضجه، فيقدم 140 دقيقة مما يمكن
تسميته بالصفعات السينمائية المتوالية التى تجعل المتفرج يجلس على حافة مقعده من
إثارة قائمة على أحداث اجتماعية تكون شديدة الملل فى حالات أخرى بعيدة عن الحالة
التى قدمها دولان.
يقدم الفيلم
علاقة الأمومة الأعذب والأغرب ربما فى تاريخ السينما، علاقة تتوزع فيها الالقاب
وتتناقل الأدوار حسب اللحظة، فمن علاقة أم وابن، إلى علاقة صديقين مشاكسين، إلى
علاقة أخ أكبر يحتوى أخته الصغرى المسكينة، إلى علاقة حبيب بحبيبته، والجميل فى
هذا الأمر هو أنه فى اللحظات التى تعود العلاقة لموقعها الطبيعى (أم وإبن) يكون
الموقف شديد الحميمية والتأثير.
كالعادة يستخدم دولان على مدار الفيلم أغانى البوب والروك على خلفية مشاهد فوتومونتاجية تلخص تطورات القصة، وهو الأسلوب الذى اشتهرت به المدارس السينمائية الأكثر شعبية فى العالم مثل هوليود وبوليود والميلودراميات الآسيوية، هذا الأسلوب فى الحالات العادية يعطى الانطباع بالرخص والإفلاس والمراهقة الفنية، وبرغم ذلك ففى حالة هذا الفيلم الأمر مختلف تماماً، بل انه كان ليفقد جزء كبير من قوته لو استغنى عن هذه الأداة المساعدة التى جاء توظيفها مُذهلاً، وإجتاز بها دولان الإختبار الثانى عندما انحاز لحدسه غير المتلائم مع أعراف الأفلام الفنية والمهرجاناتية، دون أن يمنعه ذلك أن يصبح واحداً منها .. بل ومن أروعها على الإطلاق.
النقطة الثانية
الخاصة بالجزء السابق تتعلق بجرأة اختيارات تلك الأغانى، حيث جائت جميعها من أغانى
ذائعة الصيت، وهو أمر لا يحبذه مخرجو المدارس السينمائية الشعبية أنفسهم ويفضلون اختيار أغانى
غير معروفة أو متوسطة الشهرة لأن الأغانى الشهيرة يكون المتفرج قد احتفظ لها فى
ذهنه برؤية بصرية بالفعل، رؤية تتعلق بموقف مميز حدث له حين سماعه لهذه الأغنية أو
تلك، أو تذكره بحالة مزاجية معينة، وهو ما
يجعل تلك الرؤية المسبقة تتصادم مع رؤية مشهد الفيلم، ولكن ما فعله دولان يدل على
أنه شديد الثقة فى أن المحتوى البصرى الذى يقدمه أوتى القوة الكافية التى تجعله
يحل محل أي رؤى مسبقة عند المتفرج، ويبدو لى أن ثقته كانت صائبة.
لا أريد
الاستطراد فى نقطة الأغانى أكثر من ذلك لكن من الصعب إغفال الحديث عن أحد أجمل
المشاهد على الاطلاق، وأظن أن مَن شاهد الفيلم سيدرك فوراً أنى أقصد مشهد رقص
الشخصيات الرئيسية الثلاث بغرفة الطعام على أنغام أغنية On Ne Change Pas لسيلين ديون،
وقوة هذا المشهد لا تقتصر على الحالة المزاجية الرائعة التى يضعنا بها فقط، ولكن
يمتد ليكون الإيحاء الاول بتيمة الفيلم الرئيسية (وهى الحرية) .. والتمهيد الأول للنقلة البصرية الأعنف فى نسبة عرض وطول إطار
الشاشة المستطيلة رأسياً التى قد بدأ بها الفيلم.
لنبدأ بالجزء
البصرى: فبعد ان تصبح الشخصيات فى قمة انسجامها بالرقص مع الأغنية يكون رد فعل
الكاميرا فى النهاية أن تتحرك للخلف مبتعدة عنهم وهو ما يجعل الكادر يتسع فى
تكوينه ليضم عدد أكبر من العناصر وإن بقيت نسبة إطار الشاشة الضيقة كما هى تمثل
أحد تجليات الحصار النفسى الذى يطوّق مكنونات الشخصيات، وكأن حركة الكاميرا
الاتساعية حينها كانت الإشارة البصرية الأولى عن تكوّن رغبة داخلية لدى الشخصيات
بالانسلاخ من ذلك الحصار نحو البهجة والحرية والأمل .. ولكن الرغبة مازالت أضعف من ذلك الحصار فلا تستطيع
كسره بعد مع بقاء نسبة الإطار الضيقة، وهذا ما يتغير تدريجياً مع تطور الأحداث حين
يقوم "ستيف" فى أحد المشاهد بتوسيع إطار الشاشة فى لحظة تتسم بالبهجة
المفرطة والتحرر الجنونى الذى جمع الشخصيات.
ثانياً الجزء
الفكرى: نلاحظ دائماً أن الشخصيات لا تنتزع النشوة والسعادة إلا فى لحظات
الجنون،
عندما يطلقون العنان لسجيتهم ويتخلون عن وقارهم فيصبحوا جميعاً مثل
"ستيف" المضطرب عقلياً، وكأن دولان توصل إلى أن الجنون نوع من أنواع
الحرية والعقل سجن وأداة حصار تجهض الآمال، يريد دولان الانحياز للاختلاف
كعادته
والتشكيك فيما هو طبيعى وما هو جنونى، ربما لتضميد جرحه الشخصى فى مسألة
المثلية، بإسقاطها على الجنون كنوع آخر من الاختلاف، نفس الجرح والدافع
الذى جعل ميشيل فوكو،
الذى كان أيضاً مثلياً، يصنع كتابه "تاريخ الجنون" للخروج باستنتاج
يقترب من استنتاج دولان.
المشهد الذى
تتخيل فيه الأم مستقبل ابنها السعيد، ومشهد الغناء الكاريوكى فى الحانة، ومشهد
المشاجرة الذى تسلم فيه الأم ابنها للعلاج، والمشهد الذى تدخل فيه
"كيلا" فى نوبة ضحك هيستيرية .. وغيرها من المشاهد تؤكد لماذا تخطى
دولان مرحلة مشروع العبقرية إلى مرحلة العبقرية ذاتها، "أمى" من الأفلام
التى استخدمت أبسط الأدوات لصنع حالة فريدة من الدفء وبث شحنة مضاعفة من المشاعر،
فيلم تحدى الأعراف الفنية وانتصر، فيلم صُنع من أجله مصطلح التحفة الفنية.
إرسال تعليق