"الرعشة .. ذلك ما شعرت به بعد انتهاء هذا الفيلم. أعلم أنها ليست الكلمة المنتظرة من ناقد. ولكن هذا ما حدث، فقد شعرت برعشة تنتاب دواخل جسدى." هكذا جاء تعليق قديس النقد السينمائى الأميريكى "روجر إيبيرت" بأحد الأفلام الوثائقية التى تتناول فيلم "2001: أوديسة الفضاء" للمخرج الاستثنائى "ستانلى كوبريك" والمؤلف "آرثر سى كلارك"، وهو الفيلم الذى يحظى بمكانة خاصة فى أذهان عشاق الفن السابع، كما يحتل المرتبة الخامسة عشر بقائمة معهد الفيلم الأميريكى لأفضل 100 فيلم فى التاريخ.
وما يجعلنا نتوقف أمام هذا التعليق من إيبيرت هو أنه قرر أن نقطة البداية
لمناقشة فيلم كهذا يجب أن تتعلق بالشعور لا الفكر، وهو العكس تماماً مما يفعله
غالبية من شاهدوا الفيلم، نقاداً كانوا أو مشاهدين، فهم وبمجرد انتهاءه يهرعون
للنقاش والبحث حول ما كان يعنيه كوبريك بهذه اللقطة، وما كان يقصده فى هذا المشهد،
وما يرمز له هذا الشىء أو تعبر عنه تلك الحركة..الخ. نعم، فهو فيلم محير ويعج
بالغموض. ولكن الغموض وحده ليس سبباً كافياً لاثارة شغف المرء وجلب اهتمامه، أما
الأفكار البراقة فوحدها يمكنها صناعة مقالاً جيداً أو ورقة بحثية عظيمة، لكنها غير
كافية لكى تصنع فناً مُدهشا ملىء بالمحفزات الشعورية التى تجعلنا نعطى هذا
الاهتمام الفكرى لأوديسة الفضاء.
أبرز سمة ارتكز عليها الفيلم كانت الإقناع، وسحر الإقناع هنا يكمن فى أنه
غير مشروط بالمصداقية، أى أن كوبريك قد قدم لنا توقعه للمستقبل والتكنولوجيا بصورة
متماسكة مازالت صامدة حتى الآن برغم معاصرتنا كمشاهدين لهذا المستقبل، الذى أصبح
اليوم ماضى، وبالرغم من تأكدنا من أن هذا المستقبل لم يتطابق كلياً مع ما عايشناه
فى الألفية، لعله كان أكثر تفاؤلاً وطموحاً، إللا أن هذا لم يؤثر مطلقاً فى حجم
جدية تلقينا للفيلم فى عصرنا هذا، لأنه ومنذ البداية يبرم معنا عقد الدخول فى
عالمه الخاص والسير خلف فرضياته المثيرة حول ألغاز الوجود والحالة الإنسانية
وعلاقتها بما حولها وفقا لرؤيته وخياله الخاص المبنى فى الأساس على نظريات علمية
وفلسفات دينية.
بحالة يمكن وصفها بالتجريدية يمكننا تقسيم الفيلم إلى ثلاث مراحل زمنية لكل
منها قصتها الخاصة، البداية مع فجر البشرية حيث الإنسان البدائى الذى يتاشبه
والشامبانزى، ثم ننتقل إلى مرحلة أكثر معاصرة للإنسان فى وقت صناعة كوبريك للفيلم،
وهو الوقت الذى كانت فيه البشرية على شفا الوصول للقمر، والمرحلة الثالثة ليست
شديدة البعد زمنيا عن سابقتها ولكن دلالتها ما تجعلها مستقلة عنها وهى الأكثر تقدم
بحيث يتخطى الإنسان غلافه الجوى الضيق ويسبح فى مناطق أكثر عمقاً من الفضاء ولكن
الأهم أنه لم يعد وحده الكائن الأذكى والأكثر تفوقاً فقد أصبح هنالك من يهدده
وينازعه تلك المكانة.
جمع بين الثلاث مراحل نفس نقطة التحول وهى النقطة التى يصل فيها الإنسان
لنوع من الوحى المتمثل فى ذلك اللوح الأسود المُعلق الذى يظهر فجأة من حيث العدم
ليثير فضول الإنسان فيقترب منه فتحدث النقلة التطورية. تعددت تفاسير ما يرمز له
هذا اللوح، فهناك من ذهب إلى أنه مبعوث الذات الإلاهية، وهناك من إتفق بأنه ينتمى
لكائنات فضائية أكثر ذكاءً من الإنسان تساعده فى كل مرة للإرتقاء لأسباب غامضة،
ربما هذا التفسير الأقرب للحقيقة خاصة لو علمنا أن نسخ الفيلم الأوّلية كانت تحتوى
على صوت لراوى يتحدث طوال الفيلم عن كائنات فضائية ولكن كوبريك فضل حذفه فى النسخة
النهائية. كما أن هناك تفسيرات أكثر غرائبية مثل التى تقول بأن اللوح الأسود ما هو
إللا شاشة السينما التى يتابع المتفرجون منها الفيلم!
المثير هو أن لحظات الوحى تلك لم تتحق فى الثلاث مرات إللا فى نقطة تعامد
بين اللوح وهلال القمر والشمس، وهذا المنظر كما قيل يمثل ترميز فى الديانة
الزراديشتية للصراع الأبدى بين الخير والشر، وما يدعم ذلك الطرح هو الموسيقى
الكلاسيكية التى نسمعها خلال الفيلم للمؤلف ريتشارد شتراوس بعنوان "هكذا تحدث
زراديشت"، ما جعل البعض يجزم بأن الأمر لم يكن مصادفة من كوبريك، ومن ثم
يربطون بين وجهة نظر كتاب فريدريك نيتشه الشهير والذى عنونت المقطوعة باسمه،
ويحتوى على بيان موت الإله، ليصلوا إلى نتيجة تستبعد دور الإله من أحداث الفيلم ويقصرون
الصراع فى ثلاثة أضلاع هم: أولاً الإنسان، وثانياً الحاسب الآلى الذى طوره
الإنسان، وثالثاً الكائن الفضائى الذى طوّر الإنسان نفسه.
تحدثنا فى البداية على سمة الإقناع الذى ارتكز عليها كوبريك فى صنع الحالة
الشعورية الخلابة التى سيطرت علينا أثناء المشاهدة، ويمكن التدليل على هذه السمة
من خلال عدة أشياء، أبرزها ذلك المشهد الذى يحاول فيه "دكتور ديف بومان"
ترك المركبة الصغرى لدخول الكبرى بعد أن تآمر عليه الحاسب الآلى، وفى طريقه لفعل
ذلك ورغم تحايله على كافة العوائق إللا انه ينجح فى النهاية، ولكن كوبريك يفاجئنا
بتفصيله مدهشة لم نكن نتوقعها، فالمركبة الصغرى تنفجر ولا نسمع سوى الصمت!
نعم، فالصوت لا ينتقل إللا عبر وسيط مادى ونحن الآن فى الفضاء فكيف لنا أن
نسمع؟! الأمر لم يقتصر على كونه تفصيلة علمية تقنية بل قد امتد ليكون خيار فنى فى
حد ذاته فقد قام الصمت بعمل الصوت أو الموسيقى نفسها فى تعبيره عن جلال ومهابة تلك
اللحظة، والتى سبقها أيضاً تلاعب آخر بأدوات الصوت عن طريق تكثيف أجراس الإنذار
بالمركبة الصغرى، ثم تبعها تلاعب آخر بأدوات الصوت، حين تم استخدام صوت التنفس
الثقيل لإثراء الحالة البصرية فى اللحظة شديدة الإرباك.
إذا فمن الصعب إغفال الأهمية الكبرى لشريط الصوت فى هذا الفيلم، فهو البطل
الأول والحقيقى، أوحى كوبريك نفسه بذلك عندما آثر بدء فيلمه بلا صورة حقيقية، بل
ظلام تام لا يتناغم مع شىء سوى الموسيقى المخيفة (اللا صورة أقوى ايحاء بما قبل
فجر الكون حيث العدم). ولم تكن للكائنات البشرية البدائية لغة نفهمها ولكننا
توحدنا وتفاعلنا معهم عبر الصوت المجرد المتمثل فى صرخاتهم المُرجفة، ولم يكن
الأمر يحتاج سوى مقطوعة موسيقية مميزة مثل مقطوعة شتراوس كى يتم تأكيد ذلك الشعور
بأن الإنسان قد تطور قبل حتى أن نراه (الإنسان حيوان فنان كما تذهب المقولة)، وهل
كنا سنعد HAL 9000 كواحد من أفضل
الشخصيات الشريرة فى تاريخ السينما لولا ذلك الأداء الصوتى المذهل من "دوجلاس
رين"؟!، ناهيك عن أصوات الكورال التى تصرخ صرخات روحية متألمة ومتوسلة القوى
بأن تهديها الحقيقة أو تمنحها أو الخلود كما سمعنا فى القطعة التى تمهد لمشهد
السباحة بين النجوم نحو اللا نهاية.
لنهاية الفيلم العديد من التفسيرات، ولكن ما يجب التوقف أمامه أولاً هو
تصريح لمؤلف الفيلم والرواية "آرثر سى كلارك" يقول فيه: "إذا
استوعبت الفيلم بشكل كامل نكون قد فشلنا، فغرضنا كان طرح أكبر قدر من الأسئلة التى
لم نجب عنها" إنتهى. حسنا، فى رأيى الشخصى، الذى لا الزمك به عزيزى القارىء،
هو أن النهاية لم تكن سوى إعادة أكثر تجريدية لأحداث الفيلم، حيث ترمز المراحل
العمرية الثلاث لـ "ديف" بالمراحل التطورية التى مر بها الإنسان نفسه،
ومراحل أخرى غيرها فى رحلة لا نهائية من التطور، أما موت العجوز وما تبعه من صورة
لطفل داخل فقاعة فهو تعبير عن حالة التسامى القصوى التى يظن الإنسان أنه قد يصل
لها فى نهاية رحلته، ولا يصبح بعدها بحاجة للشغف الذى دفعه عدة مرات لتفقد اللوح
الأسود الغامض، فقدان الشغف هو نقطة اللا تطور .. حين يصبح الإنسان هو القوى
الغامضة الكبرى أو الإله نفسه!
إرسال تعليق