-->

نوبل للأدب .. هل لكُتّاب السينما نصيب؟



هل نستيقظ يومًا على خبر فوز "تشارلي كوفمان" بجائزة نوبل للأدب عن نصوصه السينمائية؟ السؤال الذى كان ليصنف كمزحة قبل عامين، أصبح يراود بجدية ذهن الكثيرين من عُشاق السينما بعد نتائج الجائزة فى العامين الأخيرين، والتى ذهبت لكل من الصحفية البيلاروسية "سفيتلانا أليكسيفيتش" ثم إلى المغنى الأميركي والشاعر "بوب ديلان"، بما أثاره الاختياران من صدمة لمتابعي الجائزة بسبب تمردها على المفهوم السائد للأدب.

ويتفق كثيرون على أن التتويجات الأخيرة تُدلل على تغيّر نوعي فى سياسة الأكاديمية السويدية القائمة على منح الجائزة، حيث يبدو أن توسيع رقعة الفائزين لم يتم بشكل عارض، أى أن الجوائز لا تستهدف بالضرورة تقدير أشعار ديلان الغنائية أو كتابات أليكسيفيتش بعينهما بقدر ما تهدف لتوجيه خطاب ضمني أو إعلان بأن الأدب يتسع لأشكال عديدة من التعبير، ويمكن توجيهه من خلال وسائط أخرى غير الرواية والشعر والنثر المطبوع أو المدون بالشكل المتعارف عليه.

إن الجوائز التى قدمتها الأكاديمية ليست بجوائز عن الأدب وحسب، بل هى جوائز إلى الأدب نفسه، فأكبر خدمة يمكن تقديمها للأدب حاليا هو أن نعيد التفكير فى ماهيته، أن نبدأ من الصفر بهدمه وإعادة بنائه، أن نستفز الوقار الذى يحده فيتحرر من قيوده ويكشف عن جوهره، لعلنا بذلك نفهمه بشكل أعمق. ذلك يعد محور الإجابة على سؤال إمكانية ذهاب الجائزة لأحد كُتاب النصوص السينمائية فى الأعوام القادمة، والذى يأخذنا إلى السؤال الرئيسي وهو "هل يُعد النص السينمائى أدبًا من الأساس؟"

الاعتراض الأبرز الذى يقدمه الطرف المحافظ هو أن النص السينمائي مثله مثل الشعر الغنائى لا يكتملان بذاتهما، وهما بحاجة إلى وسيط آخر يكفل لهما وسائل مساعدة للتعبير، كاللحن والآلة الموسيقية والتصوير والمونتاج والأداء. وهناك عدة زوايا للرد على تلك الحجة. أولها، بلا شك، هى الكتابات المسرحية التى أصبح تصنيفها على الأدب أمرًا واقعًا يقر به المحافظون قبل المجددين، فهذه النصوص تدرس فى كليات ومعاهد الآداب تحت مسمى "الدراما"، ولن تجد عاقلًا ينزع الصفة الأدبية مثلا عن نصوص شكسبير. بالرغم من أنه ينطبق عليها نفس الشروط التى أدت لاستبعاد الشعر الغنائي والنص السينمائي من قائمة الأدب.

فالنص المسرحي أيضًا كُتب لكى يؤدى وينتقل إلى وسيط آخر يكفل له وسائل مساعدة للتعبير كالأداء والإخراج والأزياء. وتذهب نظريات عدة لاعتبار المسرح هو الأب الروحي للسينما. لكن العوامل المساعدة فى التعبير لم تمنعنا من إدراك التفوق الأدبي للنص، والتفريق بين رداءة أو جودة العرض المسرحي ككل وبين رداءة وجودة النص المبني عليه. الفصل لم يكن صعبًا وهذا ما ميّز كُتاب عن كُتاب. نحن نعلم أن تينيسي ويليامز كاتب مسرحي فذّ سواء قرأنا نصوصه مدونة أو شاهدناها فى عروض، كما نعلم أن كوينتن تارانتينو كاتب سينمائى فذّ.

وليس بغريب أن الأخير يصرح دائما فى لقائاته عن رفضه التعامل مع النص السينمائي باعتباره مسودة إرشادية وأنه حين يكتب فهو يقدم أفضل ما عنده كما لو أن السيناريو سيباع مثلما تباع الرويات فى حالة لم يتمكن من تنفيذه كفيلم، والحق أن نصوصه تُباع بالفعل فى متاجر الكتب مثلما تُباع النصوص السينمائية للأخوين كوين ووودى آلن وتشارلي كوفمان وإنغمار بيرغمان ونورا إيفرون وغيرهم، لكننا لاحظنا التفوق فى نصوص أفلام هؤلاء قبل الحاجة لقراءتها؛ ما يؤكد أن الفصل بين النص والعمل المكتمل لا يحتاج حتى لقراءة النص المُدوَن، حتى أن أغلب المهرجانات السينمائية والمسابقات تمنح جوائزها للنصوص الأفضل من خلال مشاهدة الفيلم لا قراءة النص.

وإن كانت هناك إمكانية لقراءة نص مسرحى فنفس الإمكانية مازالت متاحة مع النصوص السينمائية، فهى تُقرأ سواء بطبعات تجارية للجمهور وإن لم يحدث فتُقرأ بواسطة العاملين على إنتاج الفيلم والممثلين وغيرهم، ويجب أن تحتوي على عناصر تميز لإقناع هؤلاء بالاستثمار أو المشاركة فى تحويل النص إلى فيلم، ما يسقط الادعاء بأنها مجرد نصوص هلامية أو إرشادية، فهى بطبيعتها مكافئة للنص المسرحي لدرجة، ومن الازدواجية التعامل معهما باعتبار آخر. ولكن تبقى الإشكالية بأن إتاحة نصوص سينمائية للقراءة ليست عملية شائعة على المستوى الجماهيري، ما يأخذنا للرد الثانى وهو ضرورة إعادة تفسير التعريف الأدبي.

والتعريفات الأدبية تتنوع وتختلف بحسب اللغة والثقافة والزمن ومعايير الجمال وتطور مفاهيمنا عن اللغة، لذا يقول سايمون وديليس ريان فى دراسة لهما حول ماهية الأدب: "... فى الحقيقة، الشىء الوحيد المؤكد بشأن تعريف الأدب هو أن هذا التعريف سيتغير." لكن إن كنا نستهدف الرد على تيار محافظ فلنتناول أكثر تعريفات الأدب كلاسيكيةً وتجريدًا حيث تبدأ الموسوعة البريطانية فى تعريفها بأنه الأعمال المكتوبة، ويضيف تعريف قاموس أوكسفورد أنها الأعمال المكتوبة ذات التفوق والتميز الفني، وتذهب تعريفات أخرى لاعتباره كل نص مكتوب اختلف فى طبيعته عن الخطاب العادي المستخدم فى الحياة العملية اليومية وتضمّن قيمة فنية أو فكرية.

وكل ما سبق يمكن انطباقه على النص السينمائي، ولكن مع التوقف عند اللفظة الإنجليزية "writing"، والتى تتمتع بأبعاد أوسع من مرادفها العربى "كتابة"، فمثلا نجد الملحن الموسيقي فى الغرب يُطلق عليه "كاتب"، رغم أن تأليف لحن لا يحتاج للكتابة بمعناها التدويني ويحتمل الشفاهية والتواتر لأنه ليس الا نظم لنغمات الطبيعة. (قدمت فرقة "البيتلز" مجموعة من أعظم الألحان فى القرن العشرين مع اعتراف أفرادها بأنهم لا يستطيعون قراءة أو كتابة النوتة الموسيقية!) نخلص من ذلك بأن لفظة "كتابة" فى التعريفات تستهدف فعل التأليف بمعناه الواسع، سواء كان بالتدوين (أى نقش حروف على ورق)، أو بالطرق الأخرى للإبداع، وذلك كان الشق اللغوي فى الرد على الحجة التعريفية.

أما الشق الجوهري فيتمثل فى سؤال أين يتشكل النص؟ فى العقل أم على الورق؟ أو بكلمات أخرى: هل يكتب المبدع لأن لديه ما يقوله أم لأن فى يده قلمًا؟! ونحن حين نُعلي من شأن نص ما ونحتكر فيه صفة الأدب لمجرد أنه يُتداول فى شكل مدون فنحن بذلك ننحاز للإجابة الأخيرة، وهى إجابة تحط من شأن المبدع وتقترب به من وظيفة الآلة الكاتبة. النص الإبداعي إذن يجب أن ينبع ويتشكل من العقل، ما يعني أن الأدب يظل أدبًا بغض النظر عما إذا كان التدوين هو الوسيط التعبيري النهائي، أو لا.

وأستدل بمقال الأديب المصرى "محمد سلماوي" بجريدة الأهرام دفاعا عن فوز ديلان بالجائزة، حيث كتب: "الأدب فى عرف البعض هو ما يطبع فى الكتب فقط، بينما تراثنا العربي لا يعرف مثل هذا الفصل التعسفي، فالشعر الجاهلي لم يكن يطبع فى كتب وانما كان يلقى فى الأسواق، ولم يقلل من قيمة شعر أحمد رامى أنه كان يغنى أكثر مما يصدر فى دواوين."

حتى لو أقررنا بأن النصوص التى تردنا عبر وسائط أخرى غير التدوين تشوبها مؤثرات خارجية تحول دون إدراك منتهى الأصالة بالنص، فتلك المشكلة تواجه النصوص المدونة نفسها حين تمر ببوابة الترجمة. يقول "روجر سكروتون" فى كتابه عن الجمال: "إننا إذا ربطنا جمال رواية معينة بشكل وثيق بصوتها، فلنضع فى اعتبارنا جيدًا أن الرواية حين تترجم إلى لغة أخرى فهى تتحول إلى عمل فني مختلف عن الرواية نفسها بلغتها الأصلية"، لنتذكر أن لجنة نوبل قرأت أعمال ساراماجو وماركيز ونجيب محفوظ وغيرهم بنسخ مترجمة، وأن التجربة بالتأكيد ليست مطابقة لقراءة نفس الأعمال بلغاتها الأصلية، خاصة لو وافقنا على التفسيرات الكلاسيكية للأدب التى تعلي من شأن الجماليات النثرية بالتراكيب والأصوات المرتبطة باللغة، فهى جماليات غالبا ما تسقط بالترجمة.

لكن ما سبق لم يمنع القراء باختلاف ألسنتهم من الإعجاب بروايات الكُتاب السابقين؛ لذا يتابع سكروتون نظريته مُرجعا سبب هذا الإعجاب إلى العامل الحسي، فيعلق على ما قاله بأنه "يتضمن إغفالا للشىء الممتع فى فن الرواية وهو قصة الرواية والشكل الذى تتابع به أحداثها فى عالم خيالي والتأملات التى تصحب الحبكة وتثري دلالاتها... إن الترتيب الذى ينساب به السرد القصصي، وعنصر التشويق والإثارة، والتوازن بين السرد والحوار وتعليق الروائي، جميعها سمات حسية، انها تعتمد على التوقع ثم تحرير الأفكار، والانسياب المنظم للرواية فى إدراكنا." نخرج من حديث سكروتون بأن النص الإبداعي المتميز قادر على الولوج إلى حواسنا وفرض أصالته والسمو فوق الشوائب التى قد تُخلّفها الأنظمة أو الوسائط المتبعة فى إيصاله.

ويناقش "تيد نانيشيلي" فى كتابه "فلسفة النص السينمائي" الجماليات التى تعطي النص صفة الأدب. ففى أحد فصوله يتناول قول الناقد أدريان مارتن الذى يرفض أدبية النص السينمائى قائلا:" إنها هياكل عظمية بلا لحم، أشكال بلا حياة، حكايات بلا شعر أو استعارة"، ويستعين نانيشيلي بكتابات أستاذ الفلسفة الأدبية "بيتر لامارك" فى دحض ادعاء مارتن، فالأدوات الشعرية كالاستعارة ليست كافية أو أساسية للحكم بأدبية النص، وهذا التعميم قد يسقط الصفة الأدبية عن النصوص الروائية نفسها، ولن يبقي أدبًا سوى الشعر، ويختم نانيشيلي تعليقه ساخرا "لو أن الاستعارة هى ما تصنع الأدب، لكان علينا اعتبار بطاقات المعايدة أدبًا!"

وينحاز نانيشيلي لتعريف آخر للأدب صاغه الفيلسوف الأميركى "مونرو بيرسلي" فالعمل الأدبى بنظره "هو خطاب يكون فيه جزء مهم من المعنى ضمنيًا"، هذا التعريف يذهب بالاستعارة لمفهوم سيمنطيقي أكثر رحابة من اختزال المفهوم اللغوي لمارتين، ويشير بيرسلي نفسه أنه يمكن للنص السينمائي أن يكون أدبًا لو حقق شرط التضمين.

يقوم نانيشيلي بتطبيق نظرية بيرسلي على المشهد الافتتاحي لفيلم "المواطن كين"، حيث يقوم النص بوصف نثري لما نشاهده من ظلام غالب وشرفة مربعة صغيرة مضيئة وسط العتمة أشبه بختم ورقي أعلى قصر زاندو المهيب، وهناك أسلاك حديدية أمام الكاميرا تفصلها عن القصر وتسيطر على الشاشة. يذهب نانيشيلى أن بالنص تصوير بديعى يقوم بتضمين المعنى ودعم تيمات الفيلم الرئيسية، وهى وحدة وانعزال البطل "كين" كما يعبر عن سطوته.

وختامًا، فإن الأدوات البصرية والتقنية والأدائية المساعدة فى السينما تُكمل الفيلم لا النص، ولا تنتقص من أدبيته، فقط ترسم له مضمارا مختلفا للسير وتحديات من نوع آخر، ليس ثمة تفوق بل تنوع، مثلما يأخذ الشاعر القافية فى الحسبان بينما لا يتقيد بها الناثر، وهذا لا يُعلي من أدبية الأخير لأنه أكثر تحررا. ولو كان الإسهاب الروائى أكثر قيمة من التكثيف السينمائي بصفة دائمة، لما ختم الفيلسوف والعالم الفرنسي "باسكال" أحد خطاباته باعتذار على أنه لم يجد الوقت لكتابة خطاب أقصر!

لن تزداد السينما شرفًا بانتمائها للأدب أو العكس، فالسينما هى خاتم الفنون وجامعها ولم تحظ بلقب "الفن السابع" سوى لقدرتها السحرية على احتواء بقية الفنون، وذلك بدرجات ومقادير تختلف من فيلم لآخر، لذا فالسينما تستطيع أن تكون أى شىء. نعم، هناك الكثير من الأفلام التى لا تحوي بداخلها أى قيمة أدبية أو غير أدبية، ولكن حال الروايات والأشعار ليس أفضل كثيرًا. المهم أن الجيد فى السينما لا يقل عن الجيد فى الرواية والشعر، السينما تعمقت فى كل المواضيع التى تؤرق الإنسان، ناقشت الحب والفلسفة والعدل والوجود والموت والحرية والحق والجمال. ربما ما قاله الكاتب الأميركى "تشارلز ديمر" هو الخلاصة: "ينبغى اعتبار النص السينمائي أدبًا .. فى حال استحق أن يكون."