-->

Pulp Fiction .. سينما ما بعد الحداثة

 


عادة ما يقدم النقاد، غير الكاتبين بالإنجليزية، ترجمة لعناوين الأفلام الأجنبية فى سياق مراجعاتهم، وفى حالة Pulp Fiction لصانع الأفلام الأميريكى الفذّ "كوينتن تارانتينو"، فقد استقر الرأى على أن الترجمة العربية المناسبة لعنوانه هى "قصة شعبية رخيصة". لكن الإقرار بترجمة كتلك، فى رأيى، سيكون الخطيئة الأولى لبدء مراجعة فيلم استثنائى كهذا. أما الخطيئة الثانية فهى، لنقل، أن تغادر منزلك اليوم! تبدو لك الخطيئة الثانية محض هراء بالتأكيد. لكن على الأقل فكاتب النص –مهما كان تخريفه - لم يلزمك بخيار واحد.

حسناً، فهذه هى الطريقة التى صنع بها تارانتينو فيلمه، فمن اللقطة الأولى هو يقدم لك خيارين لمعنى كلمة Pulp، وكأنه يخلى مسئوليته من تفضيلك لأحدهما على الآخر، أو بالأحرى هو يتنصل من أى معنى ستخرج به من مشاهدتك لهذا الفيلم، فوجود خيارات يعنى أن الحقيقة نسبية أو غير موجودة. لذا فلن أذهب كما جرت العادة لترجمة عنوان الفيلم بـ "قصة شعبية رخيصة"، وإن بقى هذا كخيار قائم سنستخدمه فيما هو قادم للتنقيب داخل وعى ولا وعى صانع الفيلم.

وما سبق لا يفسر الفيلم وحسب، بل هو أيضاً تقديمة لفلسفة أو حالة مثيرة للجدل ونزعة فنية عُرِّفَت فى سبعينيات القرن الماضى بحالة ما بعد الحداثة. وتأتى أهمية هذا الفيلم ليس فقط فى كونه أهم وأشهر أعمال صانعه والمُعَرّف الأبرز لأسلوبه وعوالمه، بل لأنه أيضاً من أوضح وأكثر النماذج نضجاً فى التدليل على توغل النزعة (الحالة) ما بعد الحداثية فى الثقافة الجماهيرية والفنون والسينما. فصفة ما بعد الحداثة اقترنت بهذا الفيلم على المستويين النقدى والإعلامى بصورة أكبر من أى فيلم آخر.

لن اتوقف عند من يعتبرون ما بعد الحداثة مجرد مصطلح طنان بلا معنى يستخدم بغرض الحذلقة، كما هو شائع، وسيكون التعامل معها فى هذا المقال كأمر واقع بالفعل نلمسه فى كافة المناحى الثقافية والفنية والفلسفية، لذا سيكون التركيز مع من تمكنوا من تقديم تعريفات وشرح لتلك الحالة بالفعل وتعاملوا معها من منطلق جاد. ويمكن تلخيص ما وصل إليه هؤلاء كما جاء فى كتاب د. بدر الدين مصطفى "حالة ما بعد الحداثة .. الفلسفة والفن"، فى أنها ردة الفعل على المشكلات التى سببتها الحداثة فى أعقاب صدمة الحرب العالمية الثانية، وشيوع الاستغلال والاستعمار، وتهميش الإنسان ودهسه أسفل عجلات السلطة العقلانية وتوجهات التقدم والتنوير وما يسمى بالسرديات الكبرى كالأيديولوجية والدين أو حتى العلم والتكنولوجيا، فأتت ما بعد الحداثة كاتجاه مضاد ينادى بسقوط الأيديولوجيات والسرديات الكبرى ونهاية الميتافيزيقا والخروج عن كل قياس معيارى، وترسيخ مبدأ الانتماء الفردى ونسبية الحقيقة.

أما عن تطبيقات تلك الفلسفة فى السينما فهى تنقسم لنوعين من التطبيق: النوع الأول عن طريق تقديم حكايات تعبر أو ترصد دور القيم والأفكار ما بعد الحداثية فى المجتمع الغربى الحالى أو المستقبلى ووضع الإنسان به، وأمثلة على هذا النوع أفلام مثل Lost in Translation أو Her. أما النوع الثانى فهو عن طريق التعبير عن نفس الحالة ولكن من خلال أدوات السينما نفسها، أى من خلال رؤية المبدع للعالم بطريقة مفككة ومتشظية، ثائرة على الأنماط السردية الكلاسيكية والحداثية، مشوشة، تستعير وتمزج بين وسائط مختلفة، وأعمال فنية أخرى، وحالات متناقضة، متجاهلة اعتبارات الزمن والتاريخ والحقيقة والواقع والأخلاق.

وهذا النوع الثانى من التطبيق هو ما ينتمى إليه فيلم Pulp Fiction، وسأتناول بالتفصيل مظاهر وسمات هذا الانتماء، ولكن قبل البدء يجب التنويه بأن هذا الربط لا يعنى بالضرورة إدراك المبدع له أثناء صنع الفيلم، فما بعد الحداثة ليست بوصايا توراتية يعتنقها المبدع كى يطبقها فى أعماله، بل هى نزعة موجودة بداخله من الأساس وأتت هى لتفسيرها وتعريفها فقط.
أول وأشهر السمات التى تجعل من هذا الفيلم ما بعد حداثى هى سمة التشظى، والتشظى هو التفتت، وفى الدراما هو تفتيت وحدة السرد الخاضعة لمنطق زمنى إلى وحدات صغيرة متناثرة لا تتبع تسلسلاً زمنياً واضحاً، وكأن المبدع قد وصل لدرجة من الانفعال والتوحد مع نصه أن قام بتمزيق هذا النص إرباً وفق حدسه وألقى به فى وجه المتفرج ليتلقاه وفق هذا الحدس وليس وفق قواعد قصصية مفروضة على المبدع. وتتضح تلك السمة فى الأسلوب اللا-خطى الذى اتبعه تارانتينو فى سرد أربعة حكايات متصلة أو متقاطعة بترتيب زمنى ليس له علاقة بالترتيب الزمنى الفعلى لوقوع الأحداث.

يمكننا إضافة قرينة أخرى على هذا التشظى تكمن فى عنوان الفيلم نفسه، فأحد معانى الفعل pulp هو إعادة تدوير الورق المطبوع عن طريق تفتيته وتحويله للمادة الخام التى يصنع منها ورق جديد. هذا المعنى الثالث للكلمة موجود فى جميع قواميس الانجليزية، وإن لم يدرجه تارانتينو بين اختياراته فى لقطة بداية الفيلم، فهو يظل معبرا عن طبيعة هذا النص الذى قام مبدعه بتفتيته سردياً وتقديمه فى صورة نص جديد. 

ننتقل إلى السمة الثانية، وهى إعتبار الفواصل considering transitions. فقد جرى عرف أساليب السرد الكلاسيكى والحداثى على صب جم الاهتمام بالحدث نفسه وتهميش ممهداته ونهاياته أو بالأحرى التفاصيل التافهة التى تسبق وتتبع الأحداث الكبرى. فجائت النزعة ما بعد الحداثية لتعيد الاعتبار لتلك التفاصيل. أول من أشار لذلك المعنى كان الفيلسوف الفرنسى "هنرى بيرجسون" فى كتابه "التطور الإبداعى" وسار على هذا الدرب أيضاً الفنان الأميريكى "أندى وارول" الذى قال "إن الأجزاء المقطوعة من معظم الأفلام تكون شيقة أكثر مما يوضع بالأفلام نفسها". وقد تطور معه الأمر إلى صناعة أفلام تجريبية تطبيقاً لذلك المعنى، تحتوى كل ما تحتويه أحياناً على رؤية شخص نائم لمدة 5 ساعات كما فى فيلمه بعنوان Sleep عام 1963.

تارانتينو هو أحد أبرز المخلصين لتلك السمة (بصورة أقل تطرفاً من وارول بالطبع). لذا فنجد أن جزء كبير من زمن الفيلم هو مجرد تفاصيل عبثية وحوارات ثرثارة بلا هدف درامى، تدور حول أسماء شطائر الهامبرجر فى دول أوروبا، أو عن إذا ما كانت البطن البارزة تجعل الأنثى أكثر إثارة، أو لعقد مقارنة عبثية بين لحم الخنزير ولحم الكلاب، أو مناقشة حول جدوى زرع حلق فى مهبل أو لسان أنثى. لكن التجلى الأكبر لسمة اعتبار الفواصل نجده فى أحد مشاهد ثنائى العصابة جولز (صامويل إل جاكسون) وفينسينت (جون ترافولتا) حين يصلوا إلى محل إقامة "بريت" لاحضار الحقيبة الغامضة التى كلفهم "مارسيلوس" بإحضارها، ولكنهما يتراجعا عن اقتحام الشقة قليلاً بحجة أن الميعاد لم يأت بعد، ويؤثران استطراد مناقشتهما التافهة حول تدليك أرجل النساء. هذه التفصيلة هى أكثر ما يوضح ثورة تارانتينو على كلاسيكية وحداثة أساليب السرد التى اتفقت على وضع المتفرج داخل الحدث وفق وحدة موضوعية خادعة توحى بأن الكون يدور حول حبكة قصة أو صراع فيلم، بينما هو فى حقيقته مجرد أحداث عشوائية فى الزمن.

أما السمة الثالثة فهى ذوبان الفروق فى تصنيف الفن بين رفيع وهابط. وأول ما يجب الإشارة له هنا هو أن تارانتينو لا يخجل من إعلان تأثره بأفلام من درجة B الهابطة، أو أفلام الأكشن الآسيوية الرخيصة، ولا ينكر أن تلك النوعيات من الأفلام ساهمت بشكل كبير فى تشكل وعيه السينمائى. وهناك حادثة له اتوقف دائماً عندها، فحين كان يعمل تارانتينو كبائع  فى أحد متاجر شرائط الفيديو وطلب منه أحد الزبائن شريط لفيلم Au Revoir Les Enfants، وهو أحد الأفلام الشاعرية الراقية التى صنعها الفرنسى "لوى مال". فإذ بتارانتينو يقوم تلقائياً بالمزاح مع ذلك الزبون مُحرفاً إسم الفيلم إلى شىء بلا معنى على نفس الوزن ليخرج بكلمة Reservoir Dogs. بعدها بسنوات يصبح تارانتينو صانع أفلام فيقرر استخدام ذلك التحريف الساخر ليكون عنوان فيلمه الأول، فى إشارة أولى على إستخفافه بفكرة الفن الرفيع.

وحتى فى فيلمه التالى Pulp Fiction إذا توقفنا أمام عنوانه بالترجمة الثانية التى قدمها (قصة شعبية رخيصة)، نستخلص بسهولة أنه لا يأخذ مفهوم الفن الرفيع على محمل الجد. أما الحادثة الثالثة التى تفيد ذلك المعنى فكانت لحظة استلامه لجائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان عن الفيلم وإذ بإحدى الحاضرات تبدى اعتراضها صائحة على قرار لجنة التحكيم "هذا الفيلم هراء"، فما كان من تارانتينو إللا أن أشار لها بإصبعه الأوسط (مستهزئاً) من على منصة التتويج. هذه الحادثة تؤكد أن الرجل لا يتعامل مع نفسه كفنان رفيع بل يعتز بكونه الصعلوك الذى أجبر وكلاء الفن الرفيع بالوقوف له انحناءً وتسليمه أرقى جائزة سينمائية.

السمة الرابعة هى الشكل على حساب المضمون. عندما أراد تارانتينو تقديم نصيحة لكتّاب السيناريو الصاعدين قال: "أنا أهتم بالصفحة .. شاغلى الشاغل أثناء كتابة فيلم هو الصفحة، لا أنظر للفيلم نفسه فى صورته النهائية، ولكن ما يعنينى هو أن تخرج كل صفحة بقدر من الإمتاع والإثارة لمن يقرأها، كما لو أن السيناريو سيباع مثلما تباع الرويات". هذا النهج يصب فى خانة الشكلانية؛ لأنك حين تهتم بالصفحة فهذا يعنى أنك تتناسى ما قبلها وما بعدها، تتناسى البدايات والنهايات ونقاط الحبكة وخيوطها ومدلولاتها، ويترتب على تجاهل ما سبق تجاهل التخطيط أو النزعة الذهنية التى قد تفرض قضية أو مضمون ما. وما قاله تارانتينو يتفق مع الحالة التى خرج بها فيلمه Pulp Fiction بالفعل، وللإمعان فى مبدأ الصفحة كبنية فيلمية فقد قسّم فيلمه إلى فصول ذات عناوين تشبه محتويات الرواية.

يمكننا الكشف عن نزعة الشكل على حساب المضمون بطريقة أخرى وهى "اختبار المعالجة أو اللا معالجة". فالأفلام التى تهتم بالمضمون هى أسهل الأفلام التى يمكن صنع معالجة لها، والعكس صحيح. فالمعالجة ليست هى فقط شرح واختصار قصة فيلم بل هى أيضاً شرح واختصار رؤية تناول تلك القصة فى ورقة أو أكثر. وفى حالة فيلم مثل Pulp Fiction فسيكون من العبث تقديم معالجة معبرة عنه تدمج بين القصة ورؤية تقديمها.

ولتبسيط الأمر أكثر أستعين بمثال ضربه المخرج والمؤلف "ريتشارد كيرتس" فى أحد محاضراته التى ألقاها بمعهد الفيلم البريطانى حيث يقول "أنا أكره المعالجات، وعندما تذكر تلك الكلمة أتخيل شخصاً يقول لى "حسنا إنها صورة لسيدة تبتسم ولا نعرف إلى أين تنظر تحديداً وترتدى ملابس ريفية ونرى من خلفها الريف الفرنسى،" إن ما سبق هو معالجة للوحة الموناليزا"، يضحك الحضور على مثال كيرتيس، فيضيف الأخير "أرأيتم؟ إنه شىء سخيف".

نستخلص مما سبق أن الفن ذا النزعة الشكلانية يمكن تذوقه فقط عن طريق رؤيته، فيجب أن ترى Pulp Fiction لتدرك ماهيته فعلا، أما أن يخبرك أحدهم بأنه فيلم عن أفراد عصابة وملاكم وسيدة بصدد خيانة زوجها يتقاطعون فى ساعتين ونصف من الأحداث مع إضافة بعض تفاصيل عن الأسلوب، فهذا شىء سخيف كما قال كيرتس، وهو ما يؤكد أن شكلانية الفيلم طغت على مضمونه، وهى سمة ما بعد حداثية. وجب أيضاً التنويه بأن هذا لا يعنى أن الموناليزا لوحة ما بعد حداثية هى الأخرى، فلكل وسيط فنى سماته، كما أن سمة واحدة أو اثنتين غير كفيلتين بحسب عمل فنى على اتجاه بعينه. فمثلا مسرحيات شكسبير احتوت على بعض عناصر المدرسة الرومانسية قبل أن تتشكل تلك المدرسة أساساً بعد موت شكسبير بقرنين!
 
نصل للسمة الخامسة، والتى كانت غياب السلطة، فكما ذكرنا فى مقدمة هذا المقال عن العلاقة العدائية بين ما بعد الحداثة والسلطة، وتتوزع هذه السمة فى الفيلم على مستويين: المستوى الأول داخل الفيلم ويخص الغياب المحلوظ لمفهوم الشرطة، والذى يتجلى بارزاً فى مشاهد المطاردة بين بوتش (بروس ويليز) ومارسيلوس، وخاصة تلك اللقطة التى تتبع صدم الأول للثانى بسيارته، حيث نرى مارسيلوس يعود للوعى فلا يجد حوله سوى مجموعة من النساء، لا رجل واحد، ولا شرطى واحد، يمكن تناول الإسقاط الذكورى من تلك اللقطة فى مقال آخر، لكن ما يهمنا الآن هو الإسقاط الأمنى بغياب الشرطة.

غابت الشرطة أيضاً عن مسرح جريمة السطو المسلح على المطعم والذى تم فى وضح النهار وبمدة كافية لاستشعار خطب ما والتدخل لإنهائه. الطريف هو أن الظهور الوحيد لزى شرطى فى الفيلم كان لشخصية "زيد" ذلك الرجل الذى يتعاون مع بائع غريب الأطوار للإيقاع بالرجال ومن ثم اغتصابهم فى قبو متجره المريب، والفعلة، فى رأيى، مخجلة أكثر من كونها إجرامية، فلو أن شخصية ذلك الشرطى هدفها إشعارك بشىء فلن يكون سوى الشفقة. وهذا يكفى للتعبير عن دور السلطة بهذا الفيلم.

أما المستوى الثانى فهو خاص بغياب سلطة المبدع التى تقترن بمفاهيم ما بعد حداثية مثل استجابة القارىء أو موت المؤلف - أى انقطاع صلة المبدع بالعمل الفنى فور صدوره ليصبح ملكاً للجمهور وحده، يفسره كل فرد وفق هواه. 

يقول تارانتينو فى أحد حواراته: "لو شاهد هذا الفيلم مليون متفرج فأريدهم أن يشاهدوا مليون فيلماً" وقال أيضأ فى خطاب استلامه جائزة السعفية الذهبية: "أنا لا أصنع الأفلام التى تجمع البشر، بل تلك التى تفرقهم". وهذا الفيلم هو فعلا أحد الأفلام التى ينقسم الناس بعد مشاهدتها لتبنى تفاسير مختلفة لها، فهناك من سيخرج بأنه قصة عن التوبة والصلاح، وهناك من سيخرج بأنه فيلم عن تسلسل الفعل والعواقب، وهناك من سيخرج بأنه فيلم يرصد بشاعة وهبوط ما وصلت إليه المجتمعات الرأسمالية ...الخ، لكن لا شك فى أن كثيرين سوف يخرجون فقط بأنه كان فيلماً مسلياً ومثيراً، لعل هذا هو أقرب شىء للصواب وسيأخذنا للسمة التالية حول ما بعد حداثية الفيلم.
السمة السادسة هى مفهوم "نشوة الإتصال" Extase de la communication، الذى أطلقه الفيلسوف الفرنسى "جان بودريار" أحد أشهر منظرى ما بعد الحداثة، وهو "فعل المشاهدة التى ينتفى منها أى غرض غير المشاهدة، الصورة الخاوية من المعنى أو على حد وصف بودريار "انتصار لرغبة الإنتاج على رغبة تقديم المعنى"". (المقولة مستخلصة من كتاب "ما بعد الحداثة .. الفلسفة والفن – د. بدر الدين مصطفى").

ويمكننا إجمال الثلاث سمات السابقة (الرابعة، الخامسة، والسادسة) بالمقطع التالى من نفس الكتاب على لسان الفيلسوف الفرنسى "جيل دولوز"، فقط سنقوم بتبديل مفهومه عن المونولوج الداخلى الذى يتفق مع مفهومنا عن سلطة المؤلف حيث يقول: "لقد أخلى المونولوج الداخلى المكان للصورة، وأصبحت الصورة لها مطلق السيادة والاستقلالية، بحيث تكتسب الصورة قيمتها فى ذاتها من خلال ما يسبقها وما يلحقها. لم يعد ثمة تناغمات كاملة ومستقرة، ولكن فقط تناغمات غير تطابقة أو انقطاعات لا معقولة، أصبحت الصورة متحررة من القيود السردية التقليدية. كما أصبحت الصورة مكتفية بذاتها لا تحيل إلى شىء خارجها واختفى منها كل مجاز أو رمز" انتهى.

نصل الآن للسمة السابعة وهى كسر الإيهام، أو تذكير المتفرج دائماً بأنه يشاهد فيلما، وتظهر بداية من كلمة Fiction (قصة) فى عنوان الفيلم، وأيضاً من خلال التنويه الدائم بأسماء فصول الفيلم المختلفة من خلال تيترات مكتوبة ما يخرجنا من حالة الاندماج الكلى مع ما نراه. وأخيراً تظهر نفس السمة فى مشهد ميا (إيما ثيرمان) مع فينسنت داخل السيارة وهما فى طريقهما للسهر فى ذلك المطعم الغريب، فقبل أن تغادر ميا السيارة أشارت لفينسينت بإصبعها علامة مستطيل فرأينا هذا المستطيل يرسم فعلياً على الشاشة بتقنية جرافيكالية، وهو ما أكد انطباع أننا أمام فيلم وليس واقع.

أما السمة الثامنة فهى تعدد الأمزجة أو تهجينها Hybridity. فبرغم الكمية الباهظة من الدموية والقسوة التى تعترى أحداث الفيلم فإننا نعجز عن وصف مزاج المشاهدة بأنه حزين أو غير مريح، فجرائم القتل ترتكب بعد تلاوة الصلاوات أو التذوق النهم للهامبرجر أو تبادل القبل مع الحبيبة أو انتهاء عمل جهاز تسخين الخبز. طلقة مدفع "فينسينت" تنطلق فى رأس "مارفين" دون حتى أن يقصد والأمر يمر بأريحية شديدة، وأستعين هنا بما قاله الناقد المصرى أحمد يوسف فى مقال هجومى على الفيلم من منظور محافظ حيث يقول: "لقد تحول الدم إلى مجرد بقعة حمراء".
نصل للسمة التاسعة وهى المعارضة الفنية Pastiche، وتعنى بإختصار المزج بين أنواع فنية عديدة والاستعارة أو الاقتباس من أعمال فنية أخرى. ونلمس تلك السمة فى Pulp Fiction من خلال التنوع الملحوظ فى جونرات الفيلم، فهو أحياناً فيلم جريمة وفى أحيان أخرى فيلم استعراضى أو ملاكمة أو حروب، فقد استوعب نص الفيلم كل تلك الحالات ودمجها بسلاسة.

أما عن الاستعارة فنلمسها أكثر شىء فى مشهد اجتماع ميا وفينسينت داخل المطعم من خلال ملصقات الأفلام الكلاسيكية، والنادلة التى تتقمص مارلين مونرو وخاصة تلك اللقطة التى يدفع فيها الهواء بتنورتها للأعلى كما حدث فى المشهد الشهير من فيلم The Seven Years Itch. نضيف إلى هذا تسريحة شعر "إيما ثيرمان" والتى تتشابه مع الممثلة الفرنسية "أنا كارينا" فى أفلامها مع جان لوك جودار وبخاصة فيلم Band Apart، وهو نفس الاسم الذى اختاره تارانتينو لشركته الإنتاجية ويظهر فى التيترات مع بداية الفيلم. فالمعروف عن تارانتينو ولعه الشديد بجودار. تذكرنا أيضاً الرقصة التى رقصاها البطلان برقصة شهيرة كان قد أداها ترافولتا نفسه فى فيلم Saturday Night Fever. كما يتشابه مشهد مرور "مارسيلوس" أمام سيارة "بوتش" بمشهد شهير بفيلم Psycho لهيتشكوك.

السمة العاشرة والأخيرة، وربما الأهم، هى سمة اللا معنى، اللا قواعد، اللا خير، واللا شر. لنأخذ مثال شخصية "فينسينت" فهو فى أحد فصول الفيلم يكون صديق البطل أو sidekick. وفى فصل آخر يكون الشرير antagonist. وفى فصل آخر يكون الحبيب love interest. الأمر لا يقتصر على تغير وضعه القصصى بل تغير حيثيته، من شديد الأهمية ينقذ حياة سيدته فى اللحظة الأخيرة، إلى كائن شديد الهامشية يُقتل بصورة عبثية فور خروجه من المرحاض. لقد جعلنا تارانتينو نواقع الأحداث من كل زواياها لنتلبس نفسية كل ضلع من الأضلاع المتصارعة. نتوقف أيضاً أمام جملة حوارية لبوتش عندما تسأله الفتاة عن معنى اسمه فيجيبها: "أنا أمريكى يا عزيزتى، أسمائنا بلا معنى"، نضيف إلى ذلك مجموعة مشاهد يتلو فيها جولز فقرات من الإنجيل غير ذات سياق مع الموقف وبصورة أقرب للتهكم والاستخفاف بالدين عن طريق تقمص دور الإله فى فعل الشر. كل ما سبق يؤكد على فكرة رفض السرديات الكبرى، وأن العالم مكان أكثر عشوائية مما نظن وأن الحقيقة نسبية أو غير موجودة .. وكل تلك قيم ما بعد حداثية.