Youth .. الخلود، الجحود، والفرص الضائعة
"ماذا بعد؟" .. السؤال الذى يؤرق منام كل مبدع بعد أى خطوة مضيئة فى مشواره، إنه مجهول المعادلة الأصعب على أى فنان حلها. ماذا يقدم بعد تحفته الفنية؟ كيف ينجو من حصار نهم توقعات المحبين وتحفز سيوف الكارهين فى ظل واقع تنافسى طاحن يتطلب ما هو أكثر من النجاة؟
باولو سورنتينو .. الإسم السينمائى
الإيطالى الأكثر صعوداً ولمعاناً فى السنوات الأخيرة يواجه هذا التحدى بفيلمه
الأحدث "شباب" بعد النجاح الملحوظ الذى حققه فيلمه السابق "الجمال
العظيم" قبل عامين، وخاصة بحصول الأخير على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى
وأيضا كونه من أكثر الأفلام التى نالت إهتمام النقاد وعشاق السينما فى سنة عرضه.
هذا لا يلغى وجود نوع من الإنقسام فى الرأى حول "الجمال العظيم"، ويتجلى
هذا الإنقسام برمزية فى حدث خروج الفيلم خالى الوفاض من المسابقة الرسمية لمهرجان
كان فى نفس العام، وهى مفارقة تنحاز فيها الأوسكار -على غير العادة- للفيلم
المحسوب على السينما الفنية، بينما تتخلى السعفة وباقى جوائز كان عنه رغم تحيزها
التاريخى لما هو فنى وتجريبى.
يقول جان كوكتو "الشِعر ضرورة ..
وليتنى أعرف لماذا." وتأتى هذه المقولة كتفسير على ظاهرة إنقسامات الأراء حول
تلك النوعية من الأفلام أيضاً. فإنها أكثر ما يخضع للذوق الشخصى وللحالة المزاجية،
وهو ما يجعلنا فى كثير من الأحيان عاجزين عن تقييمها بشكل موضوعى، لأننا وكما قال
"كوكتو" لا نعرف لماذا، وربما لو علمنا لضاع كل السحر.
أميل لتصنيف الفن الذى يقدمه سورنتينو
كنوع متطور من السينما الشعرية، وهى شعرية تعترف وتطوّع مستجدات الثقافة الشعبية
فى داخلها، فتسمع المقطوعات الكلاسيكية جنباً إلى جنب مع موسيقى البوب الراقصة،
وترى الطبيعة الخالصة جنباً إلى جنب مع المعمار والديكور الحداثى، وتجد الحوارات
العفوية تتحول إلى نثريات وأبيات شعر مصقلة بخلاصة الحكمة ومحفزات التأمل، بل كان
من الممكن سماعها فى أحد أفلام أباطرة السينما الشعرية كـ"أندريه
تاركوفسكى" أو "تيرينس ماليك" ولكنك كنت لتسمعها فى هيئة تعليق
صوتى مبتور العلاقة مع الحدث الروائى.
هذه المرة يرتكز قوام فيلم
"شباب" حول ثلاث شخصيات رئيسية تقضى إجازة فى أحد المنتجعات السويسرية
الفخمة، وهم بترتيب الأهمية، الموسيقار وقائد الأوركيسترا "فريد
بالينجر" الذى أدى دوره الممثل"مايكل كين"، ذلك العجوز الذى اعتزل
الموسيقى ويخفى بين تجاعيد وجهه وترهلات جسده جرحاً نفسياً هائلاً يتكشف تدريجياً
للمتفرج على مدار زمن الفيلم. والشخصية الثانية هى "ميك بويل" التى
أداها الممثل "هارفى كيتيل"، وهو صانع الأفلام الذى شاخ بعد اكتشافه أنه
لم يقدم بعد الفيلم الذى يحقق له ذاته كمبدع. والشخصية الثالثة هى شخصية
"جيمى" أداها "بول دانو" وهو عن ذلك الممثل الذى يتذكره
الجميع بدور تافه فى أحد أفلام الخيال العلمى الجماهيرية مع تناسى باقى الأدوار
القوية التى قدمها، لذا فهو يعانى من إحباط كبير أشبه بالإحباط الذى عانته شخصية
"مايكل كيتون" بفيلم "بيردمان".
نلاحظ أن الثلاث شخصيات الرئيسية تجمعها مهنة الفن، وأظن ذلك سبب الربط الدائم بين سينما سورنتينو وسينما فيدريكو فيلينى، وبغض النظر عن الهوية الإيطالية المشتركة ففى رأيى أنه ربط غير دقيق لو تحدثنا من الناحية الأسلوبية. ولكنه يجوز لو تحدثنا من ناحية التيمات والمواضيع التى قدمها فيلينى فى فيلميه الأشهر على الأقل "8 ونصف" و "لا دولشى فيتا"، والتى تعرضت هى الأخرى لصراع الفنان/الوسط الفنى مع العالم. أيضا يختلف سورنتينو عن فيلينى فى عرضه للطبقة الأريستقراطية من منظور به وفاء وكأنه واحد من تلك الطبقة، بينما عرضها فيلينى من منظور وافد أو متنصت على تلك الطبقة.
نلاحظ أن الثلاث شخصيات الرئيسية تجمعها مهنة الفن، وأظن ذلك سبب الربط الدائم بين سينما سورنتينو وسينما فيدريكو فيلينى، وبغض النظر عن الهوية الإيطالية المشتركة ففى رأيى أنه ربط غير دقيق لو تحدثنا من الناحية الأسلوبية. ولكنه يجوز لو تحدثنا من ناحية التيمات والمواضيع التى قدمها فيلينى فى فيلميه الأشهر على الأقل "8 ونصف" و "لا دولشى فيتا"، والتى تعرضت هى الأخرى لصراع الفنان/الوسط الفنى مع العالم. أيضا يختلف سورنتينو عن فيلينى فى عرضه للطبقة الأريستقراطية من منظور به وفاء وكأنه واحد من تلك الطبقة، بينما عرضها فيلينى من منظور وافد أو متنصت على تلك الطبقة.
يبدأ فيلم "شباب" بمشهد
تقوم فيه مطربة شابة بأداء وصلة غنائية داخل المنتجع، والطريقة التى اختارها
سورنتينو لعرض ذلك المشهد الإفتتاحى تتماهى مع همّ رئيسى لشخصيات الفيلم،
فالكاميرا تدور بثبات مع دوران المسرح الذى تعتليه المطربة، وهو نفس الدوران الذى
تواجهه الشخصيات على مدار زمن الفيلم، الدوران فى حلقة مفرغة من المعاناة. ويتم
التعبير بصرياً عن ذلك بشكل أكثر تجلى فى اللقطات التى يصطف بها المسنون عرايا
الجسد فى صفوف دائرية وهم فى طريقهم لأخذ دورهم بجلسات الساونا والعلاج الطبيعى
بالمنتجع. نتوقف أيضاً أمام مشهد حوارى لفريد بالينجر أثناء احدى جلسات العلاج
الطبيعى حين يطلب منه الطبيب تحمل وجع العلاج حيث يتبعه راحة، فيجيبه بالينجر
يائساً: "وماذا بعد الراحة؟ وجع آخر".
هذا الكم من المعاناة فى حياة هؤلاء
يتنقل بهم بين البؤس واليأس تارة، وتارة أخرى نحو البحث عن معنى من وراءه أو
مكافأة نظير تحمله. ومن هنا يأتى دور الفن فى حياتهم. فإذا كانت أهداف الفنان
الظاهرية هى التواصل والتقدير اللحظى والإحساس بالتأثير وتغيير العالم أو حتى مجرد
تفريغ شحنات عاطفية يتعبه بقائها، فإن الهدف الكامن والأقوى هو الخلود، يريد كل
فنان أن يترك وراءه الإرث الذى يجعله باقياً مهما تلاشى جسده عن الدنيا، بغض النظر
عن كون هذا الخلود وهمى، ففى النهاية لن ينتفع أى فنان من بقاء فنه إذا لم يبقى هو
بجسده ووعيه للمس هذا البقاء، ولكنها كما قلت مجرد قشة يتعلق بها إنسان لديه ما
يكفى من الألم للقبول بأى تعويض وإن كان محض وهم.
نرصد ما سبق بشكل أكثر وضوحاً فى
شخصية ميك، صانع الأفلام الذى قرر إنهاء تاريخه الفنى بكتابة سيناريو يصفه بغرور
بأنه إنجيله الخاص أو وصيته الأخيرة للعالم، فهو السيناريو الذى يريد به تحقيق
أحلامه الضائعة عبر سنوات من تقديم أفلام اكتشف فجأة كونها هراء، ما يجعله يرتعد،
فنهايته تقترب ويظن أنه لم يترك الشىء الذى يحفظ تاريخه. يتجسد هذا الارتعاد أيضاً
فى ذلك المشهد الذى يسأله أحد رفاقه عن نهاية الفيلم الذى يكتبه فيصمت قليلاً فى
توتر ثم يجيب "سنأتى بواحدة آجلا أو عاجلا" ثم يقوم بعدها بفتح زجاجة
الشمانيا بحركة عصبية. فمفهوم النهاية عموما أصبح هو مصدر الرعب الأكبر له، إنه
السبب الرئيسى الذى يجعله يكتب ذلك الإنجيل أو الوصية المزعومة، كى يهرب من
نهايته.
كما نرصد نفس الهم عند شخصية جيمى،
حين يدخل فى ذلك الحوار اليائس مع بالينجر عن خطأ الإنجراف فى حياة الطيش الخفيفة
والتسامح مع النزوات، حيث أنه يعانى كل ما يعانيه الآن من نزوة فنية قدم فيها
شخصية تافهة التصقت به فوصمته ثم قامت بمحو باقى تاريخه الفنى الأكثر جدية. لو
دققنا فى هذا الهم لوجدناه يعود بنا لمعضلة الخلود نفسها، بماذا سيتذكرك الناس حين
تنتهى، بالإضافة لمعضلة أخرى وهى الجحود، عن طريق اختزال سيرة إنسان فى نزوة.
وبالرغم من إجابة بالينجر التى اتسمت
بالتبرير والدفاع عن الطيش إلا أننا نكتشف بمرور الأحداث أنها إجابة مزيفة يتخفى
بها من جرحه الشخصى، فبالينجر يعانى هو الآخر من نفس معضلة الجحود مع إبنته، يظهر
ذلك فى المشهد الحوارى بينه وبين ميك حين يخبره بحزنه عندما يجد إبنته قد نست أو
لا تعلم شىء عن حجم المساعى والتضحيات التى بذلها من أجل إسعادها منذ كانت طفلة،
كل ذلك بسبب نزوة أو أكثر قام فيها بخيانة أمها، وأنه خائف إذا مات الآن أللا
تتذكره بما هو جيد. ومن هنا وهناك تتعقد معضلة الخلود بمعضلة أخرى وهى الجحود، أو
لنسميها الذاكرة، فحتى إن كنت تركت ما هو قيّم لإبقائك خالداً، فإن الذاكرة
الإنسانية - أداة الخلود الوهمى - ليست دوماً عادلة.
نتوقف قليلاً لنتذكر حفل الأوسكار منذ
عامين والذى تسلم فيه سورنتينو جائزته، ونلاحظ أنه فى خطابه قد قدّم التحية لشخص
من الذين ألهموه يدعى "دييجو أرماندو مارادونا". رغم عظمة هذا الإسم
إللا أنى أشك بقوة اذا كان أغلب من بالقاعة يومها يعرفوا عمن يتحدث سورنتينو،
فالأميريكيون لا يهتمون بكرة القدم، وحتى معظم مقالات النقاد الأميريكيين لم تصل
إلى أن سورنتينو يقدم شخصية "مارادونا" بشكل متنكر فى فيلمه
"شباب".
تلك مفارقة تتناغم مع فكرة الذاكرة غير العادلة التى طرحناها، كما أن مارادونا نفسه بسيرته الدراماتيكية هو أحد الرموز الساطعة للتدليل على مفهوم العلاقة الشائكة بين العظمة والنزوات وكيف تلغى إحداهما الأخرى، وهو من صميم ما يطرحه الفيلم. كما أن ذلك ظهر فى أحد مشاهد الفيلم بحمام السباحة حين يتدخل هو فى مناقشة بين بالينجر والطفل العازف للكمان ويخبرهم بأنه أيضاً أيسر مثل الطفل، فيرد جيمى "الجميع يعلم أنك أيسر". لكن ما قاله جيمى ليس مؤكداً، فربما هناك من لا يعلم، وهذا اللا يقين هو السبب الذى دفع مارادونا للتدخل فى الحوار من الأساس وتذكيرهم بأنه أيضاً "أيسر" وكأنه فى الحقيقة يستجدى منهم الخلود بطلب أن تظل ذكراه معروفة .. "أنا أشول" .. "تذكرونى".
تلك مفارقة تتناغم مع فكرة الذاكرة غير العادلة التى طرحناها، كما أن مارادونا نفسه بسيرته الدراماتيكية هو أحد الرموز الساطعة للتدليل على مفهوم العلاقة الشائكة بين العظمة والنزوات وكيف تلغى إحداهما الأخرى، وهو من صميم ما يطرحه الفيلم. كما أن ذلك ظهر فى أحد مشاهد الفيلم بحمام السباحة حين يتدخل هو فى مناقشة بين بالينجر والطفل العازف للكمان ويخبرهم بأنه أيضاً أيسر مثل الطفل، فيرد جيمى "الجميع يعلم أنك أيسر". لكن ما قاله جيمى ليس مؤكداً، فربما هناك من لا يعلم، وهذا اللا يقين هو السبب الذى دفع مارادونا للتدخل فى الحوار من الأساس وتذكيرهم بأنه أيضاً "أيسر" وكأنه فى الحقيقة يستجدى منهم الخلود بطلب أن تظل ذكراه معروفة .. "أنا أشول" .. "تذكرونى".
هذه الرغبة اليائسة فى الخلود عبر عنها
سورنتينو أيضاً بشكل بصرى رائع فى مشاهد خلوة الشخصيات مع أنفسها. مارادونا ينطىء
كرة التنس فى الهواء بحماس وغيظ اعتراضاً على سنوات المجد التى لا تريد العودة،
وبالينجر يقوم بقيادة أوركيسترا أصوات الطبيعة والمواشى والطيور، كما يناجى ميك
الشخصيات النسائية بأفلامه والتى اجتمعت كلها أمام عينيه فى الغابة. كل منهم يقلب
فى دفاتره القديمة ويحزن. لعل محاولة بالينجر كانت الأنجح لأنها تهدف للتوحد مع
الطبيعة التى لا تفنى وإن فنى الإنسان، وكأن بالينجر قد قبِل بالأمر الواقع ولا
يمانع فى أن يخلد حتى ولو عن طريق تحلل جسده وتحوله لعناصر أخرى فى الطبيعة.
المعاناة فى الفيلم لم تقتصر على
المسنين، فحتى الشخصيات الشابة خائفة، ويظهر ذلك فى أحد المشاهد البديعة التى
تنتقل فيها الكاميرا بسلاسة بين أوجه صناع الفيلم الذى يصنعه ميك وهم نائمون
بجوار بعضهم البعض وفى حالة عصف ذهنى وروحى بحثاً عن نهاية للفيلم، ولكن نبرة
أصواتهم احتوت على ما يكفى من يأس وكآبة لنفهم أن الأمر لا يقتصر على نهاية الفيلم
وحده بل على نهايتهم هم أيضاً، هل ستكون درامية أم واقعية أم رومانسية؟ هم عاجزين
عن إيجاد نهاية لأنهم فى أعماقهم يعتقدون أنه لا يجب أن تكون هناك نهاية من
الأساس!
وبمثل حادثة التواصل الأجيالى التى
تمت بين مارادونا والطفل عازف الكمان والتى بدت وكأن الأول يريد من الأخير أن
يتذكره فيخلده، فإن الأمر يتكرر أيضاً مع بالينجر وعاملة التدليك المراهقة، التى
فى نهاية الفيلم وجدناها تقلع عن الرقص على إيقاعات موسيقى البوب وتؤثر بدلا منها
التمايل على أنغام المقطوعة الكلاسيكية التى ألفها بالينجر، وكأن الأخير قد نجح فى
تلك اللقطة بالفوز ببعض الخلود.
رغم أن "شباب" لن يحصد ربع
عدد الجوائز التى حصدها "الجمال العظيم"، إلا أنى أراه الفيلم الأفضل،
حيث حافظ سورنتينو على نفس قدر الجماليات بفيلمه السابق ولكنه تدارك أيضاً عيوبه
الكبرى والتى تلخصت فى تهميش العاطفة والمغزى. هذه المرة تتضح صراعات وهموم
الشخصيات من اللحظة الأولى، هذه المرة أنت قادر على الشعور بخوائهم النفسى قبل
وهنهم الجسدى. وحتى اللحظات الشعرية التأملية كانت أكثر ارتباطاً بالدراما وأعلى
فى جرعة الشحن العاطفى، وأقل فى الإدعاء. وبرغم حصة الكآبة إلا إنه احتوى على
لحظات شديدة الظرف والسخرية تجعله واحداً من أرقى أفلام الكوميديا السوداء فى
الفترة الأخيرة.
إرسال تعليق