-->

Stardust Memories: ماذا يدور فى رأس آلن؟

 

اعلان الحرب على الواقع، عنصر درامى شبه دائم بالأفلام التى قدمها "وودى آلن" عبر تاريخه الطويل وإنتاجه الغزير. وإن لم يكن الفنان الوحيد الذى خاض هذه الحرب فهو من جعلها تظل دوماً شديدة الزخم فى اختلاف مواقعها وتنوع أسلحتها.

فتارة يكون الموقع مدينة كباريس؛ حيث يذهب آلن ببطله فى رحلة زمنية عجيبة إلى ماضى منتقى بعناية، يغيب فيه كل مظهر للتغول المادى على الواقع المعاصر ولا يظهر سوى أساطير الأدب والرسم والفلسفة كرموز للجمال والرومانسية كما فى فيلم "منتصف ليل بباريس". وأحيان أخرى تكون الموقعة فى "نيو جيرسى" حين يُدخل بطلته فى قصة حب مع بطل فيلم آخر تراه على الشاشة، لينقذها من واقعها الكئيب كما فى فيلم "وردة القاهرة القرمزية". وأحياناً يجد الملاذ للهروب من صراعاته الوجودية ووساوسه المرهقة حول المعنى والإله داخل قاعة سينما تعرض فيلماً كلاسيكياً يجعله ينسى العالم ويقلع عن فكرة الانتحار كما فى فيلم "هانا واخوتها".

والواقع الذى يطارد آلن ليس مثلا كالواقع الذى تحدّث عنه سبيلبيرج حين قال "من يريد رؤية الواقع فليفتح نافذة منزله ولا يذهب للسينما" وكان ما يقصده هنا بالواقع هو الحياة اليومية بأحداثها التقليدية، أما واقع آلن الذى يطارده فيتخطى ذلك المعنى ليشتمل على حقيقة الوجود نفسها ومعاناة الانسان فى عالم يقسو بحياديته. وهذا ما يتجلى أيضاً بفيلمه الذى أستعرضه فى هذا المقال بعنوان "ذكريات غبار نجم"، والذى يدور حول شخصية "ساندى بيتس" صانع الأفلام الفذّ الذى يمر بأزمات نفسية ووجودية مع ذاته، وعشيقاته، وجمهوره، ومنتجى أفلامه.

من خلال المشاهد الأولى للفيلم يسهل الاستنتاج بأن شخصية "ساندى" ما هى إللا "وودى آلن" ذاته متنكراً كما العادة، ولكن هذه المرة يكون التنكر فى أقل حالاته اذا ما قورن بشخصيات أخرى قدمها "آلن" مثل "ألفى سينجر" بفيلم "آنى هول" أو "إيزاك" بفيلم مانهاتن أو "هارى" بفيلم "تفكيك هارى". فهذه المرة يكون "ساندى" قطب فى صناعة السينما، يتعامل معه الجمهور كعبقرى، والأهم أنه دائماً ما يُلام على ابتعاده عن تقديم الأفلام الكوميدية الخفيفة الذى بدأ بها مشواره الفنى والإتجاه لصنع أفلام الدراما ذات التيمات الفلسفية، وهو ما ينطبق كلية مع "آلن" نفسه.

فما الذى جعل "ساندى" ينحو إلى هذا الإتجاه؟ لا يهتم الفيلم بتقديم جواباً مؤكداً، فربما هى أزمة منتصف العمر عند الرجال، أو الصدمة جراء موت صديقه المقرب بالمرض الذى لا شفاء منه. فى كلا الحالات ما يهتم به الفيلم هو صراع الفنان فى سبيل الأصالة والحقيقة. ففى أحد أظرف مشاهد الفيلم وأكثرها سيريالية يتقابل ساندى مع كائنات فضائية خارقة وحين يشكو لهم احباطه من الصمت الإلاهى على مأساوية الحالة الإنسانية ويخبرهم بأنه يريد أن يفعل شيئاً هام حقاً، شىء يفيد البشرية، فيأتيه الرد: "أنت كوميديان .. إذا كنت ترغب فى خدمة البشرية فقل نكت مضحكة".

يأخذ هذا الصراع النفسى أشكال أخرى، منها على سبيل المثال تقديم جمهور "ساندى" بمظاهر قبيحة، وبسلوكيات منفرة، وكأن "آلن" يريد معاتبتهم أو تصنيفهم كحمقى لإنبهارهم بفنان هزلى يتجاهل ما عليه فعله بأن يناقش حقيقة معاناتهم بأفلامه بدلاً من تقديم مخدرات الخيال والضحك والنهايات السعيدة التى تغفّلهم عن الواقع. أيضاً يحتج "ساندى" على منتجيه حين يقوموا بتغيير نهاية فيلمه الكئيبة إلى نهاية أكثر تفاؤلية، نهاية يذهب بها البؤساء إلى جنة تقام بها حفلات موسيقى الجاز، لا يرى ساندى أن هذا حقيقى، لماذا عليه أن يخدع الناس بجنة فى حين الحقيقة التى يراها هى العدم.

"سنصدر هذا الفيلم فى عيد الفصح لذا لا نريد فيلم صانعه ملحد"، هكذا بررت منتجة الفيلم تغيير النهاية، ليرد عليها "ساندى" بأحد أشهر المقولات فى تاريخ سينما "آلن": "بالنسبة لك أنا ملحد، أما بالنسبة لله فأنا المعارضة المخلصة".


هناك احدى الأفكار التى تشغل ذهن "آلن" وقد عبر عنها أيضاً فى "آنى هول"حيث أرجعها لاسهامات التحليل النفسى لفرويد وصاغها فى شكل دعابة على لسان "جروتشو ماركس" تقول:"لا أريد الانضمام لنادى يقبل بى كعضو." هذه الفكرة تم التعبير عنها بصرياً فى مشهد افتتاح "ذكريات غبار نجم"، حيث يكون "ساندى" قابع فى قطار كئيب، كل ركابه عابثين أو قبيحى المنظر، بينما ينظر إلى القطار المجاور فيجد البهجة والجمال يملآنه قبل أن يسير هذ القطار مبتعداً عنه وعن قطاره الكئيب، يحاول "ساندى" الهروب للقطار الآخر لكن بلا جدوى، فهو محاصر (داخل النادى الذى قبل به كعضو).

يتبع ذلك مباشرة لقطة أخرى لجموع ركاب القطار الكئيب وهم يسيرون فى أحد مستنقعات العدم، وهذا ما يكمل فكرة كان عبر عنها آلن أيضاً فى "آنى هول" من خلال دعابة تروى عن سيدتين جالستين فى مطعم تقول إحداهن للأخرى: "الطعام هنا سىء"، فتجيبها السيدة الأخرى: "نعم، بالاضافة إلى أنه قليل"، ومن ثم يعلق "ألفى سينجر" علي الدعابة بأنها أفضل تعبير عن الحياة نفسها،"انها مليئة بالمعاناة، والمحزن انها تنتهى سريعاً!". ويعود "ساندى" فى فيلمنا ليؤكد نفس المعنى بشكل بصرى من خلال قطار الكآبة الذى يتبعه مباشرة رحلة العدم .. وهى أيضاً نهاية الفيلم (داخل الفيلم) الذى رفضتها المنتجة.

وبرغم ثورة "ساندى" ورغبته فى التمرد على الخيال الوردى لصالح الواقع المأساوى، فيظل ذلك الجزء فى نفسه يقاوم ويذكره بفلسفة تشتيت النفس بالتفاهات كحل لتجاوز المعضلة الوجودية، وهى نفس الفلسفة التى قد طرحها "آلن" فى فيلم "هانا واخوتها" كمنقذ من الإنتحار. ويطرحها فى فيلمنا أيضاً عدة مرات على استحياء كان أبرزها فى الحوار الذى دار بين "ساندى" وعشيقته "دورى" عن فكرة الانتحار، حين يخبرها بأنه يرجع سبب عدم تفكير أمه يوماً بالانتحار إلى أنها كانت شديدة الإنشغال بطهى الدجاج المسلوق!
البناء السردى فى هذا الفيلم جاء رائداً فى ما بعد حداثيته، سواء بخلط ما هو حلم بما هو واقع بما هو فيلم بما هو تعديل على فيلم، مع كسر الايهام واسقاط هواجس البطل على الحكاية، لا يوجد ترتيب منطقى للأشياء، وكأننا دخلنا إلى رأس "ساندى" أو "آلن" لنرى ما يدور بها فعلياً وبعيداً عن الأطر القصصية التقليدية التى تنظم ما فى ذهن القاص، انه سرد للوعى واللا وعى، وهذا ما جعل الصراعات والأفكار التى يطلقها الفيلم علينا تتنوّع وتتناغم وفق لحن "وودى آلن" نفسه، وهو ما يجعل من الصعب على من لا يعرف آلن أو قد تابع أفلاماً سابقة له بأن يستوعب هذا الفيلم الأكثر ذاتية وتعقيداً فى تاريخه.

نقطة أخرى تجدر الاشارة لها فيما يتعلق بخاصية كسر الايهام، فمن الملاحظ تأثر أسلوب الفيلم بتحفة فيلينى "8 ونصف". آلن لا يخجل من تقليد الآخرين، بل انه استغل طبيعة فيلمه الساخرة ليقطع الطريق على من سيتهمه بالتقليد وهذا عن طريق تخصيص احد المشاهد التعليقية بالفيلم والتى تدور بالمؤتمر الصحفى، حيث يسأل أحد الحاضرين مؤلف الفيلم (داخل الفيلم) إن كان فيلمه هو عبارة عن محاكاة تكريمية لفيلم "متحف الشمع"، فيرد المؤلف: "لا، ليست محاكاة تكريمية، فقط سرقناه مباشرة"، أظن هذا ينطبق أيضاً على الفيلم نفسه، وسطر واحد كهذا كان كفيل بنقله وصانعه من رتبة مُقلّد إلى رتبة عبقرى يدرى ما يفعله جيداً.