-->

البحث في إنثروبولوجيا المكان

 

شارع الرشيد - لوحة ماري باركر، 1930

شارع الرشيد - لوحة ماري باركر، 1930

البحث في المكان هو البحث في الهوية الإنسانية الحضارية، وهو سياحة فكرية في التجنيس السيوسولوجي لذلك الحيز الأنساني الذي يتعلق بعلاقة المكان اجتماعيا بالعادات والتقاليد وادوات الاستخدام الانساني، وهو بحث في التجنيس النفسي للفرد وللمجموعة الذي – التي تؤثث المكان.

هو أيضا بحث في التجنيس المعماري، فليس كل مكان معمور متشابه مع المكان الآخر المعمور، فالأماكن -على مقولة شولز- أهداف وبؤر، فيها تمارس الأحداث معاني وجودنا، والمكان أيضا نقطة رحيل يومي ونفسي واجتماعي وإبداعي، والمكان مع الزمان يكونان مساحة تراجيديا النص.

فرض البحر(المكان) على القبطان (آخاب) ذلك الطموح المدمر لملاحقة «موبي دك» والاتحاد الدموي معه، وبذلك كان للمكان قيمته الدرامية والفكرية (السلبية هنا)، فيما كانت علاقة الشيخ الصياد في «العجوز والبحر» مع السمكة الهائلة علاقة حنو واستحواذ وتباه وتأكيد ذات.

فرض المكان ثقله على آخاب والعجوز باتجاهين فكريين، الأول دموي سلبي ينتهي بالموت، والثاني (الذي يسميه نجيب المانع الفشل البطولي) ايجابي رغم الخسارة المرئية.

العجوز أوصل هيكل السمكة الضخم الى الساحل (مكان الراحة) وقد حقق النجاح النهائي في الصيد وإثبات الذات، رغم أنه لم يربح شيئا وظل مريضا فقيرا، لكنه حقق «نجاحه» الخاص بين محترفي الصيد المجاورين.

والمكان والزمان طرفان في النحو، في حركية اللغة وتداوليتها، حيث يثبتان تأثيرهما المباشر على النص المدون.

تعني الأسطورة Mythes بداية الكلمة المنطوقة، والكلمة هنا مجال نطقي زماني تتولد في مكان، وبالكلمة المروية المنطوقة نستطيع تحريك الزمان أو المكان، فإذا «قال الراوي» مستدركا: «وفي مكان آخر وبعد سنوات» يكون قد انتقل بنا -بواسطة الكلمة- مكانيا وربما زمانيا.

في الحكاية الشعبية والأسطورة المروية يبدأ الراوي حديثه أحيانا بالقول: «مرة في قديم الزمان» أو «كان ياما كان» الشهيرة المتواترة... اي أنه يبدأ بالزمان قبل المكان، رغم أنه لا يحدد الزمان تاريخيا واقعيا أحيانا، لكنه يرجح تقديمه.

السؤال هنا: أي «مكان» نكتشف ونحن نستمع الى الحكواتي المفترض أو نقرأ ما دوِّن عنه؟

ليس من حكواتي عندنا الآن، لكن صورته تتجسد بالمدونات المطبوعة عنه، وهي تتجسد حديثا بجهاز التلفاز الذي يزورنا عبر المسلسل بحكاية قديمة أو حديثة تسرد تلفزيونيا أو عبر برامج لتحميل المسلسلات على شكل فيديوهات.

حكواتي الأمس، أو المنشد على الرباب، كان ينقلنا عبر هزة من سيفه الخشبي وبحة في صوته أو ترجيع إنشادي له إلى زمن آخر، مراعيا تأثيرات الجلسة «مكان الرواية، الظرف النفسي للمتلقين، الضوضاء الخارجية أو مستوى الهدوء» وحاصل جمع ذلك يؤكد نجاح التلقي.

في ذات الوقت وعبر اختلاف أدوات العرض نجد أن حكواتي المطبعة (الكتاب) يجسد لنا بالحبر ورسوم الكلمات، وبجلسة القارئ (المتلقي) وظرفه النفسي درجة التلقي، وكذلك الأمر بالنسبة للحكاية المصورة عبر الشاشة، حيث المكان المتخيل المرسوم أمامنا بالصورة يعد مكان خيال مفترضا، رغم واقعيته العيانية، تقطعه احيانا المؤثرات الخارجية، مثل: جرس الباب، صوت الاب، دخول زائر... الخ.

المكان كذلك أسطوري غرائبي غير واقعي كحكاية ورواية، لكنه واقعي في الذهن، يتجسد فيه ويؤثثه وينتقل به عبر الزمان الذي يساير المكان في التجسيد، والحكاية الشعبية «المروية والمدونة بكل أنواعها تستخدم المكان وسيلة لتجسيد اللعبة الدرامية».

المكان في الأسطورة قد يعني الروح، ففي الأدب السيامي –الكمبودي حكاية «نوسا كان» ملك سيلان الذي يحفظ روحه في صندوق يضعه في بيته كلما خرج للحرب، فيتحول الصندوق (المكان) الى قبو للروح. وتكون روح مليجار في الحكاية اليونانية المرواة عنه قد وُضعت في شجرة، وهو يخرج للحرب فتقوم والدته بإحراق المكان –الشجرة، لتحترق روحه ويموت بعدما قتل اولادها الآخرين... موات يتبع موات والمكان يتبدل... شجرة – جسم – أجسام الأولاد القتلى.

ويعد شارع الرشيد البغدادي مكانا روائيا مهما في الرواية العراقية، فعلى ارصفته ومقاهيه كان تجوال وجلوس مثقفي العاصمة وتصادم التيارات الثقافية الجديدة بالقديمة، ورواية «صيادون في شارع ضيق» لجبرا ابراهيم جبرا واحدة من ابرز الروايات التي وثقت للحياة الثقافية والاجتماعية في هذا الشارع، إضافة للصورة الدموية التي دونها بعد سنوات الروائي فؤاد التكرلي في روايته «الرجع البعيد»، وهو يصور معاناة البشر وخيباتهم وصدامهم مع بعضهم في الباب المعظم خلال احداث شباط 1963.

ولا يقف الروائي غائب طعمة فرمان عند الشوارع الضيقة لبغداد القديمة في المربعة وفضوة عرب وجديد حسن باشا ومشرب بلقيس، حيث صور هذه الاماكن في «خمسة أصوات» و«المخاض» و«النخلة والجيران» وسواها، لكنه صور شارع الرشيد مكانا لحشر المتضادات الفكرية والاجتماعية وبؤرة للتفتت والاضافة العمرانية والذهنية.

المكان هنا وعاء للمتضادات الفنية والسيسولوجية، وبذلك كان «شارع الرشيد» وعيا لإضافة وانسحابا لمجتمع صياني معا. ومثلما تغير المكان، تغير الزمن هنا، ولكل أسطورة ورواية وحكاية أزمنتها وأمكنتها، وبذلك تساير لغة المكان الزمان حينا وقد تختلف عنها في حكايات وأمثلة أخرى والمجال مفتوح لتجارب وأمثلة كثيرة أخرى.