-->

طيور هيتشكوك والسؤال الخاطئ

 


أليس الفن هو العامل الذى يميز الإنسان عن الحيوان؟ أو هكذا استقر الرأى بعد زمن طويل ظنّ فيه الفلاسفة أن عوامل كاللغة والعقل هى ما تميزنا، ثم سقط هذا الظن باكتشاف لغات تواصل تجمع بعض الحيوانات، وملاحظة سلوكيات عقلانية تتمتع بها بعض الحيوانات أيضاً، فالحمار مثلا يستطيع استخدام عقله لمعرفة الطريق إلى منزل صاحبه، وذلك يُعد نشاطا عقلانيا، بينما هو عاجز عن تأليف سيمفونية موسيقية أو إبداع ما يمت للفن بصلة.

هكذا صمد الفن بكونه السمة الوحيدة التى تميز البشر، وليس فقط فيما يخص حصريته كنشاط اقتصرت ممارسته عليهم، ولكن فى سيكولوجيته لدى طرفى المعادلة الفنية، أى المتذوق والمبدع، ففى تذوق الفن رغبة دفينة باكتشاف الإنسان لذاته وللآخرين، وفى صناعته حب أعمى من الإنسان (المبدع) للإنسان (المتلقى) ورغبة لا مشروطة فى إمتاعه والتواصل الحسّى معه. المعادلة برُمّتها تصب فى نهر الحميمية الإنسانية والاحتفاء بهذا الكائن.

ما سبق هو ما كنت أعتقده قبل التمعن فى مشاهدة سينما الإنجليزى "ألفريد هيتشكوك"، فإن كان هناك شىء آخر يميز هذا الرجل بجانب أستاذيته فى صنع نوعية أفلام الهلع والإثارة، فسيكون هذا الشىء هو ازدراء الإنسان. هيتشكوك هو صانع الأفلام التى لا تجد بها أثرا للشخصية التى يصفها منظرو كتابة السيناريو بالمُحببة likeable، فالشخصيات فى أفلامه مُنفرة، مغرورة، مريضة، عاجزة، مهووسة، متطفلة، ومثيرة للشفقة. هيتشكوك هو صاحب العدسة التى تتغزل فى عرض تفاصيل فزع وضعف وأوجاع البشر وتتوقف ببرود أمام نهش لحمهم، أما سيل دمائهم فيكفى تيار رقيق من مياه الصنبور لإزالة آثاره، وكأن لم تكن، كما يحدث فى ذلك المشهد الأيقونى من فيلمه "معتوه - Psycho".

البطل فى أفلام هيتشكوك هو الحبكة ولا صوت آخر يعلو فوقها، بكل تلاعبها وتآمرها وتعريتها للشخصيات والعبث بمصائرهم، وهو مسئول عن ذلك بفخر سادي، فيصرح فى أحد أحاديثه قائلاً : "فى الأفلام الروائية المخرج هو الرب"، واضعاً نفسه فى منزلة أعلى من شخصياته بنبرة تفتقد لأية عاطفة أو مؤازرة تجاههم. كل ذلك يجعلنى فى حيرة، فكيف لهذا الفنان الذى وصل إبداعه لدرجة العبقرية أن يخاصم مبدأ أساسى يقوم عليه الفن وهو حب الإنسان.

يصل الأمر إلى الذروة فى فيلمه "الطيور – The Birds" من إنتاج عام 1963، وهو الفيلم الذى يعلن فيه هيتشكوك الحرب على الإنسان صراحة. تدور أحداث هذا الفيلم المقتبس من قصة قصيرة للكاتبة الإنجليزية "دافنى دو مورييه"، حول "ميلانى" الفتاة الثرية المُرفهة التى تسافر من سان فرانسيسكو إلى بلدة ساحلية صغيرة خلف رجل يعجبها، وبمجرد أن تطأ قدماها أرض البلدة تحدث ظاهرة أبوكاليبسية فريدة من نوعها، حيث تقوم الطيور، بكافة أنواعها، بالاحتشاد لمهاجمة البشر بغرض القضاء عليهم، لسبب يبدو، حتى بعد تترات النهاية، غامضاً.

وازدراء الإنسان فى هذا الفيلم يختلف عن أى فيلم آخر قدمه هيتشكوك فى كونه ازدراءً مُركّباً ومتعدد الطبقات، فهيتشكوك فى هذا الفيلم لم يكتف بعقاب الإنسان على سلوكياته المتغطرسة تجاه الطبيعة بجعله فريسة للطيور، بل وأيضاً يسخر من غباء شخصياته لأنهم وحتى اللحظة الأخيرة مستمرون فى أخذ الطبيعة كأمر مُسلّم به ولا يدرون الخطأ الأصلى الذى ارتكبوه. وأخيراً فهو يسخر من الجمهور نفسه، أو قطاع كبير ممن شغلهم السؤال الخاطىء عن الفيلم، وشاركوا الشخصيات فشلها فى تحديد ما وراء الكارثة التى تحدث.

يبدأ الفيلم بتتابع مشهدى داخل مَتجر ضخم بمدينة سان فرانسيسكو متخصص فى بيع الحيوانات، يُظهر المشهد هيتشكوك نفسه (ضيف شرف كالعادة) وهو خارج من المتجر يجرّ فى يده بعض الكلاب الأليفة، هذا قبل أن تلتقى ميلانى بالرجل الوسيم "ميتش برينر" فى طابق علوى من المَتجر خاص ببيع الطيور بأنواعها، ثم يدور بينهما حوار ثرثارى عن الطيور وسبب وضعها داخل أقفاص، أثناء هذا الحوار يشرع أحد الطيور فى الهرب من قفصه ثم ينجح البطلان فى إعادته للقفص مرة أخرى.
ما نخرج به من ذلك التتابع، على الصعيد الدرامى، هو أن ميتش يريد شراء بعض الببغاوات كهدية لأخته الصغرى، وأن ميلانى مُعجبة به، حتى أنها ذهبت ورائه إلى بلدته الصغيرة على خليج بوديجا، مُحضرة معها الببغاوات التى أرادها، وتركتها فى منزله دون علمه؛ كلفتة ظريفة أو نوع من المفاجأة السارة للرجل الذى تحبه. أما ما نخرج به، على الصعيد الرمزى، فهو نقد للإنسان ككائن متسلط على الطبيعة ومستعبد للكائنات الأخرى، فضيف الشرف يجر الكلاب، والمتجر يحبس الطيور، وميلانى تستغلهم كأداة فى خدمة نزواتها العاطفية.

 
إذن الحيوانات عموماً، والطيور خصوصاً، فى التتابع الأوّلى من الفيلم لا تملك من أمرها شيئاً ومصيرها خاضع بشكل تام لأهواء بنى البشر. وكان هذا السبب كافيا لثورة الطيور وتوّحشها القادم ضد البشر، بداية من ذلك الطائر الذى ينقض على ميلانى فى البحيرة وكأنه ينتقم للببغاوات، ووصولاً للهجمات الأكثر ملحمية وقوة وبخاصة حين تهاجم أسراب الغربان أطفال المدرسة الهاربين فى أحد أعتى مشاهد الفزع بتاريخ السينما. وإنى مؤمن بأن هناك تعمّد بإدراج ضحايا من الأطفال؛ انحيازاً لمبدأ المعاملة بالمثل، حيث أن البشر أنفسهم لا يفرقون فى استعبادهم وغطرستهم على الكائنات الأخرى بحسب العُمر، فلماذا على الطيور أن تُفرق فى انتقامها بين بشرى بالغ وبشرى طفل؟! توجد هنا نبرة تفيد بأن التصنيف العمرى والجنسى هو اختراع بشرى بلا معنى، فالحقيقة أن جميع الكائنات تتألم وتتأذى.

أما المستوى الثانى من عقاب هيتشكوك، فكان ضد تسلط البشر على بشر مثلهم، وتحديداً شخصية الأم، فهى تخاف على ولدها ميتش بدرجة مهووسة وتحاول إبقائه دائراً فى فلكها إلى الأبد، وهو بذلك لا يختلف كثيراً عن الطيور داخل أقفاصها. لذا فكان عقاب هذه الأم المتسلطة مضاعفاً بأن تعيش حالة ذعر مزدوجة، أولها ذعر على المستوى الوجودى مصدره هجوم الطيور على البشر، وثانيها ذعر على المستوى الشخصى مصدره ميلانى وهى فى طريقها لإيقاع ميتش فى غرامها ومن ثمّ إبعاده عن أمه.
حول هذا الأمر يتحدث هيتشكوك فى كتاب محاوراته مع "فرانسوا تروفو" عن مشهد حب محذوف من الفيلم كان يجمع بين ميلانى وميتش فى منزل الأخير بعد مغادرة أمه فى طريقها لبيت ذلك الفلاح الذى افترست الطيور جسده والتهمت عينيه، فى المشهد المحذوف تراه الأم فتفزع وتغادر سريعاً عائدة لمنزلها لكنها ترتعد من اختلاس رؤية ابنها يمارس الحب مع ميلانى. يقول هيتشكوك أنه أراد إظهار أن تلك السيدة، وبرغم هول رؤيتها لإنسان بلا عيون، إلا أنها ما زالت أماً متسلطة، وأن حُبها لولدها ما زال مسيطراً على كل مشاعرها. وتعد هذه صفعته الساخرة الأولى من شخصياته، فالأم لم تتعظ بعد من ثورة الطبيعة ضد التسلط والاستبداد.

أما الصفعة الأخرى فكانت فى مشهد المطعم، الذى جمع بعض سكان البلدة بعد أن اشتدت هجمات الطيور، فأخذوا فى عقد نقاشات حول الأمر من منظور طبيعى وحربى ودينى وفلسفى، كل منهم يطرح موقفه من الظاهرة البعيد كل البُعد عن اتهام الإنسان بأنه السبب، على إيقاع هذه المناقشات نسمع النادلة تنادى على الطباخ بأن يحضّر بعض شطائر الدجاج، ونسمع الطفل الصغير يسأل أمه بفزع "هل، حقاً، ستأكلنا الطيور يا أماه؟"، يقولها وهو جالس على منضدة مليئة بأصناف الطعام وبداخل مطعم يقدم الطيور كصنف رئيسى فى وجباته كما سمعنا من النادلة، ليكلل هذا التناقض استهزاء هيتشكوك بشخصياته وبالإنسان الذى لم ولن يتعظ أبدا أو يتراجع عن صلفه مهما أمدته الطبيعة بإشارات عن غضبها، فهو ماضٍ فى استغلالها لصالحه والتعاطى معها كشىء مُسلم به، فهو يرى التهام شطائر الدجاج حقاً بديهياً، فى نفس الوقت الذى يرى فى هجوم مضاد للطيور ظاهرة غريبة تستحق التساؤل والتحليل!

يسخر هيتشكوك، أيضاً، من شريحة الجمهور التى سوف تخرج من مشاهدة الفيلم لتطرح نفس السؤال الذى طرحته الشخصيات ولم يُجاب عنه، وهو السؤال الخاطىء: "لماذا تهاجم الطيور؟"، هؤلاء من تعاطوا مع الحالة الاستثنائية التى يقدمها هيتشكوك على أنها حبكة منقوصة الحل، متعطشين لإجابات من نوعية أن المسئول عن هياج الطيور هى الأرواح الشريرة، أو تجارب خطرة يجريها علماء، أو موجات تحكم تبثها كائنات فضائية، أو أن البطل يحلم ... إلى آخره من تلك التفسيرات التى اعتادت أفلام الغموض تقديمها. السخرية هنا أن الجميع منشغل بتفسير هجوم الطيور ولا أحد مهتماً بتفسير هجوم البشر، هذا السؤال المضاد هو ما أراد هيتشكوك أن يسأله الجمهور وهو يعرف أنهم لن يفعلوا لأنهم وببساطة يفكرون من منظور بنى البشر الذى ينتقد الفيلم غرورهم وغبائهم.

لذا فبرغم خطأ السؤال إلا أنه يؤكد نجاح الفيلم فى تقديم رسالته على كافة المستويات. يقول هيتشكوك فى الكتاب السابق ذكره: "في بداية الفيلم يظهر ميتش (رود تايلور) في متجر الطيور ليمسك بطائر الكناري الذي هرب من قفصه، وبعد إعادته للقفص، يقول لميلانى، "إنى أضعك مرة أخرى في قفصك المذهب، يا ميلاني دانيالز." قمت بإضافة هذه الجملة أثناء التصوير لأنني شعرت بتناسبها مع شخصية ميلانى فهى الفتاة الثرية الضحلة. ومع مرور الأحداث، عندما تهاجم الطيور القرية، تلجأ ميلاني للاختباء فى كابينة هاتف زجاجية، وقد أظهرتها كما الطيور في القفص، لكن هذه المرة ليس قفص من الذهب، بل قفص من البؤس، ويُعد ذلك انعكاساً للصراع بين الإنسان والطيور. فالبشر هنا في الأقفاص والطيور فى الخارج. عندما ألتقط شيئا من هذا القبيل، لا أعتقد من المحتمل أن يلاحظه الجمهور." وما قاله هيتشكوك عن هذا المشهد ينطبق أيضاً على مشاهد المطعم والمنزل فى نهاية الفيلم، حيث تحولت كافة الأماكن المغلقة إلى أقفاص للبشر، بعد أن بدأ الفيلم بلفيف من أقفاص الطيور فى المتجر.

الاستنتاج النهائى. إذا كان يرى هيتشكوك أن التهام الدجاج نوعاً من التعدى على كائن آخر وانتهاكاً للطبيعة وليس مجرد مرحلة من مراحل الدائرة الغذائية للكائنات الحية، فهو هنا يسعى نحو نسخة أكثر تطوراً وسمواً للإنسان، يسعى نحو كائن يستحق تلك الهالة والأهمية التى أحاط نفسه بها، كائن لا يأكل ولا يتغوط ولا يمارس الجنس، كائن خالى من كل الصفات غير المرغوب فيها مثل الغباء والمعاناة والمرض كما يذهب تعريف فلسفة أو حركة جديدة تطلق على نفسها ما بعد الإنسانية أو Transhumanism؛ لأن هيتشكوك لم يكن يوماً من المعجبين بالحالة التى عليها إنسان اليوم، تتفق أو تختلف معه، لكن على الأقل تذكّر بأن لولا هذا الإنسان بكل عيوبه لم يكن ليصلنا فنٌ خلّاب كالذى قدمه هيتشكوك، فلولا الإنسان لما شاهدنا "الطيور".