-->

رهان نولان في دانكيرك



في فيلمه الأحدث "دانكيرك"، يقود المخرج "كريستوفر نولان" معركتين أساسيتين بهدف واحد وهو النجاة. الأولى للنجاة من الحصار النازي للجنود البريطانيين خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في بلدة "دانكيرك" التي تقع في شمال غرب فرنسا. أما المعركة الثانية فهي للنجاة من الكليشيه السينمائي ومن كل ما هو مكرر في طريقة تقديم الفيلم، بدءًا بالتخلي عن التفاصيل التي لا تخلو منها أفلام الحروب وعلى رأسها شرح السياق التاريخي لما يدور، وانتهاءً بالتخلي عن مبادئ القصة التقليدية وعلى رأسها مركزية الشخصية، فقد اكتفى الفيلم بجعل المتفرج يواقع الحدث من منظور مبالغ في موضوعيته.

شعار الفيلم الرئيسي أن النجاة من "دانكيرك" هي بحد ذاتها انتصار. لكن هل النجاة من الكليشيه هي بحد ذاتها قيمة؟ ليس إذا كانت النجاة منه ستؤدي لكليشيهات من نوع آخر. وبداية يجب التأكيد على أن الكليشيه هو العدو الأول لكل مبدع، ذلك لأن أبسط تعريف للكليشيه هو كل أداة فنية تم استهلاكها. الهدف الجوهري إذن هو تجنب التكرار لأنه خصيم الدهشة ومصدر الرتابة الأول. وفي "دانكيرك" ابتعد نولان عن كل ما هو مكرر ومستهلك في أذهاننا عن أفلام الحروب ليصنع فيلم حربي مختلف. لكنه كان اختلافا بغرض الاختلاف وليس نتيجة لإيجاد البديل. هروب استعراضي من التكرار قاده إلى سكك مسدودة في أعراف الحكي، فلم يجد حلولا سوى أن يصنع كليشيهاته الخاصة ويكررها على مدار زمن الفيلم.

قد يكون الفيلم نجا بالفعل من تقديم قصة حب مفتعلة في الخلفية، أو تاريخ أسري ميلودرامي للشخصيات، ولم يأخذنا لغرف القيادة العسكرية المهيبة لنتابع النقاشات المحتدمة بين الجنرالات حول خطط الحرب... إلى آخر كل تلك الكليشيهات المحفوظة في أفلام الحروب. لكن ما سبق لم يكن كافيا للقول بأن الفيلم هرب من جوهر الكليشيه وهو الرتابة. فالبنية السردية للفيلم يمكن تلخيصها في أنه مع كل خمس دقائق هناك شخص عابر بلا اسم أو تعريف أو تاريخ، أشبه بأبطال ألعاب "البلاي-ستيشن"، يواجه الموت، برا وبحرا وجوا، ويعافر حتى ينجو منه بالصدفة، فإما أن القنبلة النازية كانت على بُعد أمتار منه، أو أن الرصاصة كانت طائشة، أو أن المروحية قد سقطت به لكن قوارب الإنقاذ كانت حاضرة...الخ. وكلها مجموعة من وحدات الحكي المتطابقة من حيث المبدأ، تقوم بتكرار نفسها على مدار الفيلم، وتزداد بلادة واعتيادية مع كل تكرار، وباتالي تفقد تأثيرها.

لم يكن نولان مطالبا بتقديم قصة بالمعنى الميلودرامي للقصة، لكنه تخلى عن أبجدية رئيسية لا يصمد من دونها أي نشاط سردي حتى وإن كان تبسيطيا (minimalistic)، هذه الأبجدية هي التطور. نحن أمام فيلم مستسلم لركوده وسلبيته استسلاما تاما. والسلبية في الفيلم تنطبق حتى على الحل الذي يأتي في النهاية عن طريق المدد الغيبي، وهو بمجرد أن ينظر الجنرال عبر المنظار فيرى قوارب الصيد تقترب من الشاطئ لإجلاء الجنود فيخبر من حوله بمنتهى البساطة أنها "فُرِجَت"! حتى لو كان هذا الواقع تاريخيا فهو واقع غير مُعالج سينمائيا، ربما بزعم الواقعية وحقيقة ما يحدث في الحروب، لكن من قال أن الواقعية القحة معيار للجودة؟ وكيف غاب عن مرددي تلك النظرية حقيقة بسيطة مثل أن مشاهدة فيلم ممتع تظل أفضل كثيرا من معايشة حرب مملة!

اكتفى الفيلم بتقديم هذا الصراع الذي يدور مرارا في نفس الحلقة، وهو بحق صراع قادر على خطف الأنفاس وإحداث الإثارة، لكنها أشبه بإثارة ركوب "الرولر كوستر" في أي مدينة ملاهي، هي إثارة لا تخرج عن المضمار المتوقع، إثارة بطعم الرتابة. ماذا عن مخاطبة المشاعر؟ اعتمد الفيلم في ذلك على تكثيف نفس الصراع تكثيفا كميا لا نوعيا، واعتمد في ذلك على تعدد الأماكن والبيئات والأشخاص التي تواجه ويلات الحرب، مراهنا على أن معايشة التجربة من زوايا كثيرة (عدديا) ستساهم بشكل أكبر في استيعاب المأساة، قد يكسب الفيلم هذا الرهان مع شريحة من المتفرجين ستبارك مبدأ "الحرب حين تُعاش لا حين تُحكى". لكنه سيخسر الرهان مع شريحة أخرى لن تجد في النظرة البانورامية للحرب خيطا عاطفيا يستحق التعلق به، تماما مثل لقطات مدير التصوير "هويت فان هوتيما" وهي ترصد من الأعلى صفوف وتجمعات هائلة للجنود المحاصرين على الشاطئ، يبدون فيها بحجم هامشي كالنمل، وقد يصعب التمييز بينهم وبين رصة الأحجار، وفي ذلك لا يختلفون كثيرا في مقدار الألفة عن الأبطال الاعتباريين للفيلم. فالنظرة متطرفة العمومية من نولان للحرب، غير المرتكزة حول الشخصية (الإنسان)، تكون أشبه بخبر في نشرات الأخبار ضحاياه بالنسبة للمستمع مجرد رقم. قد يكون الرقم مثيرا للأسى لكنه الأسى الذي ينتهي بمجرد تغيير القناة أو الانتقال للفقرة الرياضية في نفس النشرة. كذلك حوادث الفيلم (وأتعمد هنا وصفها بالحوادث لا الأحداث) فهي تطير من ذاكرة وعقل المتفرج بمجرد نزول التترات.

ويبدو أن نولان كان على وعي بعناصر القصور في دراما الفيلم، لذا حاول التحايل عليها بالتلاعب بالخط الزمني ليعرض نفس الحادث بأكثر من منظور على طريقة Pulp Fiction، لكن حتى تلك الأداة ظهرت دخيلة على الفيلم، فما الفائدة أو الإضافة من مواقعة نفس الحدث عدة مرات من منظور كل شخصية إذا كانت شخصيات الفيلم بالأساس مُهمشة بفعل فاعل! فليس ثمة نقلة شعورية أو لمعة فكرية قد تنتج جراء رؤية سقوط الطائرة مرة بعين البحّار العجوز، ومرة بعين جنود المشاة، ومرة بعين قائد الطائرة الأخرى، فنحن بالكاد نعرف هؤلاء. "دانكيرك" فيلم غير مكتمل لمخرج موهوب، أعاقه الطموح الزائد من الخروج بإبهار موضوعي يتناسب مع الإبهار التقني.