-->

سمير فريد .. مسيرة ناقد وعاشق للسينما

 


تجربة نقدية حافلة يزيد عمرها عن خمسين عاما قضاها الناقد المصري سمير فريد في إثراء الثقافة السينمائية. فريد، المُلقب بعميد النقاد العرب، وُلِد في مدينة القاهرة في الأول من ديسمبر عام 1943، وبدأ ممارسة النقد السينمائي منذ عام 1964 قبل تخرجه من قسم النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية بعام واحد، جاء بعدها تعيينه بجريدة الجمهورية عام 1965، واستمر يكتب لها ولمطبوعات أخرى مصرية وعربية أبرزها جريدة المصري اليوم من خلال عمود "صوت وصورة" الذي خرج فيه أحيانا عن سياق النقد السينمائي ليناقش مواضيعا اجتماعية وسياسية مختلفة. رحل فريد عن عالمنا في مطلع الشهر الماضي، تاركا إرثا هائلا من الدراسات والمقالات والبرامج التلفزيونية والكتب التي يصل عددها إلى 50 كتابا تنوعت بين النقد والتأريخ والترجمة، وقد ساهمت في تشكّل وعي أجيال، ويدين له الكثيرون بإثقال معرفتهم بفن السينما، الفن الذي كان عشقه قبل أن يكون مهنته.

تُرجمت العديد من كتابات فريد إلى لغات أجنبية، ما جعله يتخطى المحلية ويبرز اسمه على الساحة العالمية، فكانت كتاباته هي المدخل المثالي للتعرف على سينما عربية يجهلها العالم ويشتاق للمزيد. يتطور الأمر مع فريد ويصل للكتابة خصيصا لمجلة Ecran الفرنسية التي نشرت له سلسلة مقالات بعنوان "ستة أجيال في تاريخ السينما المصرية"، وسرعان ما نال عضوية الاتحاد الدولي للنقاد عام 1970، وكان حضوره دائما ومؤثرا في المحافل السينمائية الدولية، فلم ينقطع طيلة خمسين عاما عن حضور فعاليات مهرجان كان السينمائي الدولي، وهو المهرجان الذي قام بتكريمه عام 2000 حيث مُنح فريد ميدالية كان الذهبية. كما كرمه مهرجان أوسيان سيني فان بنيو دلهي في الهند عام 2012 عن إنجازه في مجال النقد السينمائي. وتعددت التكريمات والجوائز، لكن يبقى التكريم الأهم والأخير بجائزة الكاميرا الذهبية من مهرجان برلين الدولي في مطلع فبراير الماضي وقبل وفاته بأسابيع، وهي واحدة من أرفع الجوائز التي تُمنح للسينمائيين حول العالم، ويعد فريد أول مبدع يحصدها من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومن ضمن ما كتبوه عن فريد في حيثيات منح هذه الجائزة: إنه واحد من أهم نقاد السينما فى العالم العربى، ويعتبر خبيرا سينمائيا تؤخذ بآرائه حول العالم، وهو الناقد الذى رافق مهرجان برلين لعقود طويلة .."

ويفتتح الناقد الألماني "كلاوس إيدر"، سكرتير عام الاتحاد الدولي للنقاد، كلمات الرثاء التي كتبها عن فريد بعد أيام من وفاته قائلا: "ليس من الشائع أن تُمنح الجوائز لناقد سينمائي، فبداخل العائلة السينمائية يعتبر الناقد هو الطفل المنبوذ ... لكن بالنظر للأعمال التي قدمها سمير فريد يتضح كم أن وجود النقاد يُعد ضروريا لإنعاش السينما وإبقائها"، وهنا فإيدر استطاع أن يلمس مكمن العظمة الحقيقية لفريد، وهو ليس بالتقدير نفسه بل بالقدرة على انتزاع التقدير رغم كونه "ناقدا"، أي يمارس أكثر المهن المكروهة داخل المنظومة السينمائية. وقد يطول الجدل في هذا الشأن، لكن المؤكد أنه لولا النقد السينمائي لم تكن السينما لتكتسب صفة الفن من الأساس، ولظل يُنظر لها بدونية كما كان الأمر في بدايات القرن العشرين، كونها مجرد نشاط للتسلية، ويرى كثيرون أن النقد السينمائي نشأ لهذا الغرض: فإذا كانت السينما تستطيع أن تستوعب نظاما نظريا له ثقله، فسوف تكون جديرة بالاحترام مثل بقية الفنون الأقدم. وهو الشيء الملموس في كافة كتابات المنظرين القدامى، فالسعي وراء نظرية للسينما هو سعي لتحقيق الكرامة لهذا الفن، ذلك منذ قام "فاشيل ليندساي" بنشر كتابه "فن الصورة المتحركة" عام 1915 وهو من عنوانه يبحث للسينما عن صفة فنية كالشعر والمسرح والرواية.

وما نتعلمه من تاريخ النقد السينمائي أن الكتابات التي تبقى هي تلك التي تتجاوز في علاقتها بالسينما التعليق أو الحكم على الأعمال، وتمتد لتشمل رصد الظواهر والتنبؤ والتصنيف وإبداع النظريات وإلهام الفنانين. فهناك كتابات "أندري بازان" التي ألهمت مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة، وهناك مقالة "الكاميرا مثل القلم" التي كتبها "ألكسندر أستروك" في الأربعينيات وتنبأت بدخول السينما عصر السيميوطيقا واللغة البصرية، وهناك نظرية المؤلف auteur theory التي بدعها "أندرو ساريس" ورصدت ظاهرة تحول وظيفة مخرج الفيلم من منفذ تقني للنص إلى مؤلف ومبدع حقيقي للفيلم، وغيرها من الكتابات التي غيرت في مسار وتاريخ الثقافة السينمائية.

وعلى الصعيد العربي فلم تظهر على الساحة أطروحة نظرية مماثلة بنفس الشعبية والثقة والتأثير الذي تتمتع به أطروحة "الواقعية الجديدة" للراحل سمير فريد، وهو مَن صكّ هذا المصطلح ونظّر حوله. وتكمن أهمية فريد هنا، كونه الناقد العربي صاحب النظرية، وهو أمر نادر. وقد كانت البذرة الأولى لتلك الأطروحة بمقالة نشرت في مجلة "أدب ونقد" في ديسمبر 1986 بعنوان "واقعية جديدة تولد في مصر"، استعرض فيها فريد الملامح السينمائية لموجة جديدة من المخرجين هم "عاطف الطيب"، "محمد خان"، "داود عبد السيد" و"خيري بشارة". فهؤلاء برأيه نجحوا في تصوير الحياة اليومية في القاهرة بصدق وجمال، ونزلوا إلى الشوارع على نحو لم يحدث من قبل. كما عبروا عن الأزمة النفسية لجيل حرب أكتوبر 73. وقد واصل فريد متابعاته وتنظيره حول هذا الجيل بحماس لا يقل في إبداعه عن أعمالهم التي تناولها، حتى اختمرت رؤيته تماما فأصدر كتابه الأهم في مطلع التسعينيات بعنوان "الواقعية الجديدة في السينما المصرية".

ومن القضايا التي شغلت فريد قضية السينما المصرية والقطاع العام في فترة حكم عبد الناصر، نشر فريد دراسة مطولة حول هذا الأمر في عدد يناير 1973 من مجلة المعرفة السورية، وذلك بعد وفاة عبد الناصر وتوقف القطاع العام عن الإنتاج بعامين، ويختتم فريد رصده لكافة مراحل سطوة القطاع العام قائلا إن عدد الأفلام ذات المستوى الفني الذي أنتجها هذا القطاع يبلغ نحو ربع ما أنتجه. والأغلبية الساحقة لهذه الأفلام مأخوذة عن روايات ... ولا تتجاوز الأفلام الجيدة التي لم تعتمد على الأعمال الروائية أصابع اليد الواحدة. ورغم أن كل هذه الأفلام تنتمي إلى الواقعية التقليدية إلا أن عددا محدودا جدا منها تناول مشاكل المجتمع المصري المعاصر.

ويعود فريد لمناقشة القضية مرة أخرى في عموده بجريدة المصري اليوم بتاريخ 30 أبريل 2014 في مقال بعنوان "كارثة العودة للقطاع العام في السينما"، وذلك بعد أن ارتفعت بعض الأصوات تطالب الدولة بالعودة لإنتاج الأفلام بعد ثورة يناير 2011، وذكر فريد أن الإنتاج السينمائي المصري كان لفترة متكافئا مع مثيله الأوروبي والأميركي، ومع إنشاء القطاع العام في السينما عام 1963، بدأت السينما المصرية في التراجع... كان ذلك لأنه في الوقت الذي شهد فيه فن السينما في الستينات أكبر وأهم حركات التجديد في كل تاريخه من البرازيل إلى اليابان مرورا بباريس ولندن وروما والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا، بدأت مصر عصر توجيه السينما على الطريقة السوفيتية في الثلاثينيات، والتي كانت روسيا نفسها قد تمردت عليها بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عام 1965. ويعود فريد ليضيف: "إن أفلام الدعاية السياسية ليست رديئة فنياً بالضرورة، بل إن بعضها من أعظم كلاسيكيات الفن السابع مثل أفلام إيزنشتين، ولكنها تهدر الكثير من طاقة الفنانين في التحايل على الضغوط التي تمارسها الدول كمنتج يستخدم السينما كوسيلة، ولا تعنيه حرية القضايا في كثير أو قليل."

قضايا حرية الفنان كانت تتصدر اهتمام فريد، فكان صوتا تقدميا، يعي جيدا أن الفن لا يقوم بدون تحرر الفنان، وفي كل قضايا المنع ومعارك الفنانين مع الرقابة وقف في صف الفنان. ومن أشهر الأفلام التي دافع عنها فيلم "الرسالة" للمخرج السوري مصطفى العقاد وكان اسم الفيلم في البداية هو "محمد رسول الله"، كتب فريد مقالا طويلا في عدد أبريل 1977 من مجلة الهلال بعنوان "ارفعوا أيديكم عن فيلم محمد رسول الله"، يستعرض فيه الأزمة التي تعرض لها الفيلم والتي أدت لمنعه من العرض في مصر، رغم عرضه في شتى دول العالم، انتقد فريد تعنت جهاز الرقابة والمؤسسات الدينية التي وقفت خلف هذا المنع، رغم التزام مخرج الفيلم بالضوابط التي اشترطتها تلك المؤسسات ومنها عدم تجسيد النبي محمد صوتا وصورة. وأصدر فريد كتابا بعنوان "تاريخ الرقابة على السينما في مصر"، كتب في مقدمته: "الرقابة كما وصفها "غودار" ذات يوم هي جوستابو على الروح، وسوف يظل كل مبدع في العالم يرى في الرقابة قيدا على حريته في التعبير."

والرقابة في نظر فريد تعبر عن السلطة السياسية الحاكمة: "..ويمكن تبين توجهات السلطة بوضوح من خلال ما تمنعه رقابتها أكثر مما تصرح به." ولم يكتف فريد بنقد المؤسسات الرقابية، فقد لاحظ أن هناك دور يلعبه بعض المثقفين في نفاق توجهات السلطة بالتحريض على المنع، وفي الفصل العاشر من كتابه يرصد فريد تلك الكتابات الصحافية المحرضة على المنع في أزمة فيلم "الأبواب المغلقة" للمخرج عاطف حتاتة. ويستحدث نفس المعركة مع أزمة فيلم "حلاوة روح" للمخرج سامح عبد العزيز، الفيلم الذي تدخل رئيس الوزراء المصري السابق لمنعه رغم إجازته رقابيا، نشر فريد على خلفية هذه الأزمة الشهيرة سلسلة مقالات بعنوان "النقد السينمائي السلفي"؛ واصفا أغلبية الكتابات النقدية التي نالها هذا الفيلم بالتحريضية. وتابع فريد: " ...من المؤكد أن عدم إعجاب أى ناقد بالفيلم لا يعنى بالضرورة أنه سلفى، فليس المقصود الناقد الذى يرى سلبيات فى السيناريو أو الإخراج أو التمثيل أو غير ذلك من فنون السينما، وإنما من يرفض الفيلم بسبب تناوله الجنس، أى بسبب موضوعه أو الأزياء التى يرتديها الممثلون."

واهتم فريد في تحليلاته النقدية بالإشارة للسياق الاجتماعي والسياسي للزمن الذي كتب فيه التحليل، وربط هذا السياق بالعمل الذي يناقشه، ما جعل مقالاته دائما صالحة للتجميع بداخل كتب؛ بحيث يعمل التحليل بجوار السياق عمل النقد والتأريخ في آن واحد. ولم يخجل فريد يوما من التراجع عن بعض آرائه القديمة لو تغير السياق الذي كتبت فيه، وأبرز تلك التراجعات كان عن المقال الذي كتبه في شبابه ضد سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، بعد أن غابت عن الساحة السينمائية من منتصف الستينيات لتعود مع مطلع السبعينيات بفيلم "الخيط الرفيع" الذي استفز غضب فريد وأبناء جيله كونه دراما برجوازية مُرفهة في ظل نكسة عسكرية تشهدها مصر، لتتبعه حمامة بفيلم برجوازي آخر هو "إمبراطورية م" الذي قيلت فيه جملة على لسان أحد الأبطال تسفه من فكرة التظاهرات الاحتجاجية، مع صدور الفيلم في نفس توقيت اندلاع مظاهرات الطلبة الشهيرة عام 1972 التي طالبت السلطة بإعلان الحرب واستعادة الأراضي المحتلة، فكتب فريد مقالا هجوميا ساخرا من حمامة بعنوان "الليدي فاتن تلعب الكروكيت في نادي الجزيرة". ويقول بعد سنين أنه ندم على هذه الكتابات، خاصة بعد أن اختارته حمامة ليكتب كتابا عن مسيرتها السينمائية بدورة عام 1995 لمهرجان القاهرة السينمائي، والسبب أنها ارتأت في قلمه الموضوعية وأنه الوحيد الذي لن يجاملها. فكانت فرصة فريد للاعتذار عن حادثة السبعينيات والتعبير عن تقديره الحقيقي لتجربة حمامة التمثيلية.

واتسمت سيرة فريد بنزعة استكشافية للتجارب المختلفة وإخلاص في تسليط الضوء على المواهب الجديدة، سواء كانت هذه التجارب من النوع النقدي أو النوع الفني. أما الأول فيتمثل في إزالة الثرى عن تجربة الناقد "فتحي فرج" بعد وفاته، حيث جمّع فريد مقالاته من منشورات نوادي سينما القاهرة وقدمها في كتاب ممتع من إعداده، ثم اتخذ فريد قراره عام 2012 بالاستغناء عن مساحته في جريدة الجمهورية على أن تخصص تلك المساحة للمواهب النقدية الشابة. أما الثانية فتتمثل في انحيازه الدائم للأفلام التجريبية المختلفة سواء بمساعدة صناعها وإرشادهم بالنصائح أو بالحرص على تقديمها للقراء وتفسيرها لهم بشكل ممتع، فكان خير سند ومعاون لصناع السينما الجادة، وجمعته صداقات متعددة بهم منذ جيل شادي عبد السلام وحتى جيل كريم حنفي وهالة لطفي. وشارك فريد في تأسيس جمعية نقاد السينما المصريين، وترأس مهرجان القاهرة السينمائي عام 2014 في دورة شهد كل من ارتادها أنها الأقوى في تاريخ المهرجان."