قوائم الأفضل .. بين المنهج والذائقة
لم يتوقف الجدل الدائر بين النقاد ومحبى السينما منذ أعلن موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC فى أغسطس الماضى عن قائمة بأفضل مئة فيلم عالمى لهذا القرن وفق اختيارات 177 ناقدا سينمائيا من مختلف الدول، وكالعادة سادت حالة بين الرفض والقبول والتعليق والتساؤل حول نتائج تلك القائمة من قِبل المهتمين، كرد فعل لا يبدو مبنيًا وفق أى معيار سوى الذائقة الشخصية لكل مُعلق، وهو نفس المعيار الذى يُفترض أن اتبعه النقاد المشاركون فى صناعة القائمة أنفسهم.
فى هذا المقال لن تكون "الذائقة الشخصية" ردًا كافيًا لإنهاء الجدل والتسليم بالنتائج، ليس تجاوزا للسؤال الذى لم يحسمه فلاسفة الفن حتى الآن وهو "كيف تتفاوت الذائقة الفنية من شخص لآخر؟" إنما فقط رغبة ومحاولة للفهم، فصناعة القوائم بهذا الشكل أصبحت ظاهرة تستحق التوقف، ويُعد من الكسل اختزالها بعبارة "أذواق"، فهى عملية يشوبها نوع من المنهجية غير المعلنة سنحاول الكشف عنها، والمُرجح أن النقاش حول تلك القوائم وما تسببه من حالة زخم وحراك فى الفكر السينمائى هو أحد الأسباب التى تُصنع من أجلها.
السؤال الأنسب للبدء، إذن، لن يكون "كيف ولماذا يسير ذوق المشاركين على هذا النحو؟"، وإنما "هل هذا ذوق المشاركين بالفعل؟" أتوقف أمام ما كتبه الناقد الأميركى "سام آدمز"، أحد الذين شاركوا فى صنع اختيارات هذه القائمة، ورغم ذلك يكتب بعد صدورها مقالا بموقع Slate يبدو فيه غير متحمس للنتائج أو لفكرة الاستفتاءات التى ينتج عنها قوائم فى العموم، يقول آدمز: "إن الاستفتاءات بطبيعتها تقوم بدهس الغرابة والتفرد بالذوق الشخصى، لتُنتج فى النهاية ما تتقبله الرصانة العامة"، هذا الكلام يمكن إسقاطه على القوائم الفردية لكل ناقد على حدة، فهو يكشف عن تحدٍ يواجه كل مصوّت بإما أن ينغمس داخل الخصوصية المفرطة لتفضيلاته وإما أن يستبعد كثيرا من الأفلام التى يُشعِره تفضيلها بالذنب لأنها لا تتماشى مع الرصانة العامة، حتى لو تساهل مع فيلم منهم أو اثنين لتتسم قائمته بتوازن نسبى فسيظل غير معبر بدقة عن ميول الناقد.
ويبدى آدمز قلقه من إضفاء طابع مؤسسى على هذا النوع من القوائم، خاصة وهو يراها تعبر فقط عن الذوق الاعتيادى وانحياز النقاد للأفلام الجادة وأفلام "الآرت-هاوس" مع تهميش أفلام النوع كالكوميديا والحركة والجريمة. لا مفاجآت. صحيح أننا قد نجد بعض أفلام المخرج "ويس أندرسون" بالقائمة، وهى أفلام فنية يكفى وصفها بالظريفة، لكن من العسير أن نجد فيلما كوميديا بحق، من الذى يجعل المتفرج يضحك من أعماق معدته كأفلام الإنجليزى "إدغار رايت" مثلاً، فالنقاد لا يلطخون وجاهتهم بالانحياز لتلك النوعية من الأفلام، وإن كانوا واقعين فى غرامها سرًا.
هناك اعتبارات أخرى تحكم عملية الاختيار منها مثلا أقدمية الفيلم، حيث يذهب الظنٌ بأن قيمة العمل الفنى تزداد بمرور الزمن. فى تحقيق أعدته مجلة Indiewire، منذ أربع سنوات، يعلق المحرر "ديفد جينكنز" على هذا الأمر قائلاً: "هل ثمة مدة يتطلبها الفيلم كى يصبح صالحًا للاختيار؟ ويتابع: "فى قائمة عام 2002 بمجلة Sight & Sound (الصادرة عن معهد الفيلم البريطانى) لأفضل الأفلام فى التاريخ، قال الناقد "روبن وود" إن الوقت كان مبكرًا للتأكد إذا ما كان فيلم "معلمة البيانو - 2001" للمخرج النمساوى "مايكل هانيكه" جديرًا بتضمينه فى القائمة. هل يجب القول أن مدة عشر سنوات، مثلاً، كافية ليكتسب الفيلم الحالة الكلاسيكية؟"
تلك الملحوظة من جينكنز نلمسها أيضاً فى ذهاب المركزين الأول والثانى من قائمة الـBBC لأفلام "طريق مولهولاند" للمخرج ديفد لينش و "فى مزاج للحب" للمخرج وونغ كار-واى، والفيلمان من إنتاج عام 2000، أى التاريخ الأقدم فى النطاق الزمنى للقائمة. هذا الأمر تحقق فى الماضى مع فيلم "المواطن كين" الصادر عام 1941 للمخرج أورسن ويلز، حيث لم يدخل قائمة العشرة أفلام الأوائل باستفتاء مجلة Sight & Sound إلا عام 1962، أى أن الأمر تطلب حوالى عشرين عاماً من النقاد كى يقدروا هذا الفيلم التقدير الذى جعله يظل بعدها مُتصدرًا لتلك القائمة لمدة ستين عاماً على التوالى (تتجدد كل عشرة أعوام) باعتباره أفضل فيلم فى تاريخ السينما. ولم يهتز مركزه إلا عام 2012 حينما تمكن فيلم "فيرتيجو - 1958" للمخرج ألفريد هيتشكوك من إزاحته نحو المركز الثانى.
والطريف أن "فيرتيجو" لم يكن بين أفلام هيتشكوك التى حظت بنجاح جماهيرى أو نقدى لافت وقت صدورها. ويُرجع الناقد أوين جليبرمان بموقع EW الصحوة التدريجية والاهتمام المتنامى الذى اقتنصه الفيلم، على مر السنين، إلى مقالة نقدية كتبها "روبن وود" نجحت فى وضع الفيلم على أريكة التحليل النفسى وجعله هدفا للتناول بصور أعمق وأكثر جدية من قِبَل بقية النقاد. إن مسيرة فيلمى "المواطن كين" و"فيرتيجو" مع القوائم هى أقوى دليل على أن الأحكام تتبدل بصور متطرفة مع تعاقب الزمن، وأن الذائقة أو حتى الرصانة العامة مسألة مؤقتة ومحكومة بعوامل خارجية.
ومن الاعتبارات التى يصعب تجاهلها أيضا فى عملية صناعة القوائم هى التوازن الجغرافى، نلاحظ فى القائمة الأخيرة وجود ثلاثة أفلام من جنوب شرق آسيا فى المراكز العشرة الأولى، أى ما يقترب من الثُلث. لعل هذه الأفلام تستحق بالفعل الوجود بقائمة المئة لكن التقدم الواضح فى ترتيب مراكزها لا يعبر بالضرورة عن مستوى السينما الآسيوية أو مستوى تلك الأفلام بل عن هاجس لدى كل مصوت بتضمين أفلام مختلفة الإثنية بقائمته القصيرة كى لا يحصرها على تيار بعينه مثل هوليوود، لمسنا نفس الهاجس عند النقاد فى حادثة بمطلع هذا العام، حين روّجوا لحملة Oscars So White التى جاءت كرد هجومى على استبعاد أفلام الأعراق المختلفة والأقليات من سباق جوائز الأوسكار الأخيرة. هذه الثقافة الآخذة فى الانتشار أصبحت تهدد مصداقية النُخب وصانعى الرأى العام السينمائى لأنها تُحيل التنافس من اعتبارات فنية بحتة إلى اعتبارات حقوقية وعنصرية مضادة أو توازنات جغرافية تكون فى الغالب بلا معنى.
ولا يتوقف مبدأ التوازنات عند التنوع الجغرافى، بل يمتد ليشمل عناصر أخرى منها هوية الصانع. فعندما يُطلب من الناقد قائمة بعشرة أفلام يراها الأفضل فهو بطبيعته، وبما تؤكده الأرقام، لن يختار فيلمين أو أكثر لنفس صانع العمل، بل يقوده هاجس التنوّع ليكتفى بفيلم واحد لكل صانع كى يعطى فرصة لآخرين بالوجود فى قائمته. هذا التوازن فى حقيقته بلا معنى ويؤدى فى النهاية لاختفاء أفلام هامة من القوائم، ولعل أبرزها فى القائمة الأخيرة كان فيلم "اقتباس – 2002" للكاتب الفذّ "تشارلى كوفمان"، والذى فشل فى الدخول لقائمة المئة لأن أغلب النقاد فضلوا التصويت لفيلم آخر لكوفمان وهو "إشراقة أبدية للعقل الخاوى – 2004"، فأُخذ الأول بذنب الثانى.
ما سبق كان أحد الأسباب التى أدت بالمخرج والناقد الأميركى الكبير "بيتر بوجدانوفيتش" لكتابة مقال بموقع Indiewire يتحدث فيه عن تجربته مع استفتاء مجلة Sight & Sound لعام 2012 عن أفضل الأفلام فى التاريخ، حيث طُلب من بوجدانوفيتش المشاركة به. يقول: "...بعد صراع للطلوع بقائمة العشرة المفضلين، شعرت أن المهمة مستحيلة. أستطيع تبسيط قائمتى بأفضل عشرة مخرجين، لكنه عذاب ألا أضمن كل أفلامهم العظيمة. لنأخذ المخرج "جان رينوار" مثلًا .. كيف أختار بين "الوهم الكبير" و "قواعد اللعبة" و"الإنسان الوحشى" و"رقصة الكنكان الفرنسية" و"النهر" و"جريمة السيد لانج"؟ سيكون علىّ أن أضع ثلاثة أفلام على الأقل لرينوار فى قائمة العشرة الأفضل، ماذا سأفعل بعدها؟" ويعلق فى نهاية المقال بعد ذكر عديد من الأمثلة: ".. إن فكرة التقييم برمّتها معادية للفن وللثقافة السينمائية. فهى اختزال عبثى."
ويبدو أن الأمر لم يسلم حتى من الاعتبارات السياسية، هذا ما نلمسه بالغياب التام والمثير للريبة لأفلام المخرج "كلينت إيستوود" وهو الذى قدم من الروائع السينمائية الكثير بهذه الألفية، ترشح بعضها وفاز بعديد من الجوائز من بينها الأوسكار كفيلم "فتاة المليون دولار - 2004"، هذا التجاهل الأخير لإيستوود فى استفتاء الـBBC جاء متزامنًا مع مواقفه السياسية المثيرة للجدل وانحيازه المُعلن للحزب الجمهورى الأميركى والتصريح بأنه سينتخب المرشح "دونالد ترامب" بما يثيره الأخير من نفور لدى التيار الليبرالى المسيطر على الوسط النقدى والسينمائى. وعلى نفس الصعيد، يثير وجود فيلم "30 دقيقة بعد منتصف الليل – 2012" للمخرجة كاثرين بيجلو شكوكًا حول معايير المصوتين، فبانحيازهم لفيلم لا يميزه شىء سوى أن صانعته امرأة؛ يستمر هاجس التنوع الزائف؛ وهذه المرة تماشيا مع الموجة النسوية الحديثة بافتعال وجود نسائى داخل صناعة يحتكرها الذكور.
والملاحظ فى عملية صناعة القوائم أنها تبرز تباينات ليست ببسيطة مع تباين نوعية المصوتين، فقائمة أعدها النقاد مثل قائمة الـBBC أو مجلة Sight & Sound، تختلف عن قائمة أعدها الجمهور المولع بالسينما مثل قائمة موقع IMDb. نلاحظ فى الأخيرة ميل أكبر لأفلام النوع حيث يحتل فيلم "الأب الروحى" بجزأيه المركزين الثانى والثالث، بينما يقبع نفس الفيلم فى المركز الحادى والعشرين فى قائمة النقاد لمجلة Sight & Sound. أما فيلم "فارس الظلام- 2008" الذى يأتى فى المركز الرابع من قائمة IMDb فيأتى نفسه فى المركز الثالث والثلاثين فى قائمة الـBBC. أما "المواطن كين" الذى يصنفه غالبية النقاد بالفيلم الأعظم فى تاريخ السينما فيتوارى بالمركز الثامن والستين من قائمة IMDb الجماهيرية!
وتبدو قائمة معهد الفيلم الأميركى AFI لأفضل 100 فيلم أميركى فى التاريخ، والتى يتنوع صانعوها بين نقاد وصناع وفنانين ومؤرخين، هى الأكثر توفيقا فى نتائجها بين الأذواق الشتى، حيث يتصدر القائمة "المواطن كين" ويأتى بعده مباشرة "الأب الروحى" فى المركز الثانى. كما تبدو القائمة أكثر تصالحا مع الكوميديا حيث خطف فيلم "البعض يفضلونها ساخنة" للمخرج بيلى وايلدر المركز الثانى والعشرين، وهو مركز متقدم نسبة لفيلم كوميدى لا يكمن من ورائه أى هدف سوى المتعة والضحك الخالصين، تماماً مثل فيلم "الشقة – 1960" لوايلدر وقد جاء فى المركز الثمانين.
وبالحديث عن وايلدر الغرب ننتقل إلى وايلدر الشرق، أو المخرج المصرى "فطين عبد الوهاب"، صاحب الأفلام الكوميدية الأكثر خلودا فى تاريخ السينما العربية، والتى تماهى معها الجمهور وحفظ نصوصها عن ظهر قلب، وبالرغم من ذلك نجد تلك الأفلام إما مستبعدة أو مهمشة من قوائم الأفضل عربيا ومصريا، خاصة بالقائمة التى أخرجها مهرجان دبى السينمائى عام 2013 لأهم 100 فيلم عربى فى التاريخ، وجاءت شبه خالية من أفلام الكوميديا عموما، أما القوائم الأخرى التى أعدها سابقًا مهرجان القاهرة فنلاحظ أنها لم تهتم إلا بفيلم "مراتى مدير عام – 1966"، وليست مصادفة أنه يكاد يكون الفيلم الأوحد فى مسيرة عبد الوهاب الذى اختلطت فيه الكوميديا بمحتوى سياسى ونسوى جاد، أما أفلامه الأخرى التى اكتفت بالمتعة الخالصة مثل "إشاعة حب" أو "ابن حميدو" أو "الزوجة رقم 13" فهى مهمشة أو غائبة عن تلك القوائم.
وتستمر ظاهرة ازدراء الكوميديا فى القائمة التى أخرجها مهرجان الإسكندرية السينمائى عام 2014 لأفضل 30 فيلما مصريا صدرت فى الثلاثين عامًا الأخيرة. حيث اكتفت القائمة بفيلم كوميدى وحيد هو "البداية – 1986"، ولو دققنا فى الاختيار لن نجده تقديرا للكوميديا بل لمحتوى الفيلم السياسى. أما أفلام أخرى استهدفت المتعة الخالصة مثل "الناظر - 2000" للمخرج شريف عرفة، الذى لا يستطيع أحد إنكار أنه الفيلم الألمع والأعتى تأثيرا فى الثقافة الجماهيرية المصرية فى الثلاثين عام الأخيرة، بالإضافة لتمتعه بعناصر تقنية شديدة التميز. لكنه يذهب دائما ضحية تصنيف الكوميديا كفن من الدرجة الثانية. وهى ظاهرة عالمية كما وضّحنا، لكنها أكثر تفشيا بين النُخب العربية.
إرسال تعليق