-->

تيار الكوميديا البذيئة فى هوليوود (روجن ورفاقه)

"أنا على يقين بأن الحافز على الإضحاك مثله مثل الحافز على أى نشاط آخر يقوم به المرء، وهو الجنس. فأنت حين تغسل أسنانك تغسلها لتمارس الجنس، وحين تأكل فهو لتستمد الطاقة لممارسة الجنس، وعندما تُفضّل ارتداء سروال على الآخر فأنت تفعل هذا لتمارس الجنس. كذلك كونك مرحاً، إنها فقط رغبة فى أن تُضاجِع."

قد يصعب التصديق بأن صاحب المقولة السابقة هو الممثل "سيث روجن" فى حوار مصوّر مع صحيفة نيويورك تايمز، ذلك الكندى السمين الذى هبط على هوليوود فى مطلع الألفية ليقود مع رفاقه رحلة غيّرت شكل ومضمون السينما الكوميدية إلى يومنا، وهو الذى كان يبدو لوهلة ما مجرد صعلوك ظريف لا تتعدى ثقافته أنواع نباتات الماريجوانا والحشيش التى يُدخنها أثناء كتابة الأفلام.

فهل بالفعل تذهب بنا تلك الصورة الذهنية إلى استبعاد امتلاكه لرؤية فرويدية للحياة كالتى تكمن فى المقولة السابقة؟ أم لعل الأحرى هو استبعاد امتلاكه لأى رؤى سواها؛ انحيازاً لمبدأ السجية كأقصر الطرق للحكمة، أو كما يقول برنارد شو: "أصعب الأسئلة هى التى تكون إجاباتها واضحة".

روجن هو الرمز الأشهر داخل ما يمكننا اعتباره بالموجة أو التيار الكوميدى الجديد فى السينما الأميريكية، ويشاركه به أسماء مثل "جونا هيل"، "جيمس فرانكو"، "بول رود"، "جاى بروشيل"، "جيسون سيجال" على الصعيد التمثيلى، و"إيفان جولدبرج" و"جود أباتو" ومعهم روجن على صعيد الإنتاج والتأليف والإخراج، ويعد فيلم The 40 Years Old Virgin هو باكورة أعمالهم السينمائية، لو تغاضينا عن المسلسل التلفزيونى الذى قدموه مع نهاية التسعينات بعنوان Freaks & Geeks.

باختصار، إذا كانت قصائد الشعر الجاهلى قد اشتهرت بالبدء بوصف الخمر، فإن أفلام هذا التيار تشتهر بالبدء بوصف المخدرات والجنس، وبخاصة المخدرات. بل لعل كامل قوام أفلامهم يرتكز حول هذه التيمة، لدرجة أن هناك من النقاد من يطلق على سينماهم مصطلح "كوميديا السطل" Stoner Comedy.

فمثلا عنوان فيلمهم Pineapple Express ما هو إللا اسم حركى يُعرف به أحد أصناف الحشيش، ولو تعمقنا قليلاً داخل فيلمهم This Is the End فلعله أول فيلم خيالى لا يستند على السيريالية أو الكابوسية أو الحلم إلخ. من مذاهب الفانتازيا المعروفة، بل استند على السطل، والسطل هنا ليس مجرد حَدَث بل مذهب فنى، فرحلة البطلين فى الفيلم تبدأ بعد تعاطيهما لذلك المخدر الجديد أثناء سماعهما لأغنية فريق "باكستريت بويز"، وهى نفس الأغنية التى ينتهى بها الفيلم، ما يأخذنا إلى أن باقى أحداثه، متطرفة الخيال، لم تكن سوى أعراض سطل، وهم على وشك الإفاقة والعودة للعالم الحقيقى الذى تركوه مع الأغنية. 

أما عن الجنس، فيكفى ذلك المشهد ببداية فيلم Superbad حين يرشح هيل لصديقه سيرا، عبر الهاتف، أحد مواقع البورنو التى تقدم لزوارها أنواع من الممارسات الجنسية الفيتيشية والمقرفة، ويصف هذه الممارسات بالتفصيل وبأسلوب صادم فى صدقه، ناهيك عن ظرفه.

إلا انه سيكون من عدم الإنصاف القول بأن تيمات المخدرات أو الجنس أو حتى البذائة اللفظية التى تعترى أفلامهم هى السبب الذى أنجح هذا التيار حقاً وساعده على الاحتفاظ بعرش الكوميديا لما يزيد عن 10 سنوات، فنفس تلك التيمات وُجدت، إلى حَد مشابه، بموجات كوميدية أخرى فى تسعينيات القرن الماضى، مثل موجة "الجيل X" وتحديداً بأفلام "كيفن سميث"، وأيضاً بسلسلة American Pie. ولكن هذه الموجات لم تصمد طويلاً على الساحة مثل موجة روجن ورفاقه، فما السبب؟

كتب روجن وجولدبرج سيناريو فيلم Superbad وهما فى المدرسة الثانوية، ثم أصابهما الإحباط عندما سمعا، وقتها، بصدور الجزء الأول من فيلم American Pie؛ نظراً لتشابهه مع فكرة فيلمهم، لكن هذا الإحباط لم يدم طويلاً لأن الفيلم الأخير، كما يقول روجن: "تغاضى، تماماً، عن تقديم حالة تواصل صادقة بين شخصياته، وهو ما كنا نستهدفه فى فيلمنا". وحالة التواصل التى يقصدها روجن هى بالفعل أكثر العناصر التى تشكل أفلام التيار الذى ينتمى إليه، وما يعطى له الصدق والمسحة العاطفية التى تكسر من لذوعة الطبيعة الكوميدية، فالمعروف منذ أرسطو أن الكوميديا والإضحاك قائمان على مبدأ "شر البلية"؛ وهو ما يجعل العاطفة ضرورة لإحداث بعض التوازن.
  
 
تظهر تلك الحالة بأفلام هذا التيار من خلال عدة تجليات، أهمها هو ما يُعرف اصطلاحاً بالبرومانسية Bromance، وهو مفهوم أميريكى مستحدث يعنى الرومانسية الأخوية أو رومانسية الأصدقاء، لذا يلحم المصطلح بين كلمتى Brother و Romance، ويجب التفريق بين ذلك وبين المُثلية الجنسية، وأظنهم قد لعبوا على هذه النقطة جيداً، سواء بشكل جاد أو ساخر.

يظهر هذا النوع من العلاقات فى معظم أفلام هذا التيار، فغالباً هناك ثنائى من الذكور تجمعه صداقة قوية تمر بتحديات، لكن الأجمل والأكثر طزاجة هو حين تمتد التيمة لتصبح عن الشجاعة فى التعبير عن المشاعر بين ذكور غير مُثليى الجنس، يحاول هذا التيار كسر المحاذير الاجتماعية الذكورية لهذا العالم والتى ترفض أن يعبر الرجل عن مشاعره خاصة لو كان تجاه صديقه، فيلمهم I Love You, Man قام على هذه الفكرة بشكل مباشر يتضح حتى من عنوانه.

أيضاً، تم التعبير عن نفس الفكرة بشكل فرعى فى باقى أفلامهم وبالأخص Superbad، ففى مشهد يجمع هيل مع سيرا قبل النهاية بقليل يكونان مستلقيين بجوار بعضهما البعض ويدور بينهما هذا الحوار: "أنا أحبك يا رجل"، "وأنا أيضاً أحبك، أنا حتى لم أعد أشعر بالخجل من قول هذا"، "لماذا لا نستطيع قول ذلك بصفة متكررة؟!" .. ثم يتعانقان فى لحظة مفعمة بحميمية من نوع خاص. يصل الأمر للملحمية مع مشهد قبل النهاية من فيلم This Is the End حين يقرر سيث التضحية بحياته كى ينقذ صديقه جاى، حدث ذلك على أنغام أغنية I Will Always Love You وهى أكثر أغانى القرن العشرين رومانسية، حتى وإن بدى الأمر هزلياً فالمعنى يظل حاضراً ومُركزاً فى جميع أفلامهم، بل فى أحيان يتخطى فى أهميته علاقات الحب التقليدية.

وبذكر أغنية ويتنى هيوستن بالفقرة السابقة نتوقف أمام ملمح آخر يميّز هذا التيار وهو الاستعارة الدائمة من الثقافة الجماهيرية Pop Culture، فمن ينسى الدور الذى لعبته أغنية Fireworks للمطربة كاتى بيرى بفيلم The Interview، أو الاستخدام شديد الظرف لأغنية Gangasta's Paradise بفيلم The Green Hornet، مع قيام الفيلم نفسه بمحاكاة هزلية لشخصية مجلات الكوميك الشهيرة، وهناك مشهد شهير بفيلم Knocked Up يقوم فيه روجن بتقليد الممثل روبرت دينيرو، هذا بجانب وظيفة البطل فى الفيلم نفسه والتى كانت إدارة موقع إليكترونى يهتم بتجميع مشاهد الجنس والعُرى من أفلام هوليوود.

كل تلك التفاصيل وغيرها تؤكد مدى طغيان الثقافة الجماهيرية على أفلام هذا التيار واستغلالها كعماد رئيسى للإضحاك، ولِمَ لا والكوميديا أساساً هى فن المرجع reference بين الكوميديان والمتلقى، فلتضحك على نكتة ما يجب أولاً أن تفهمها، ولتفهمها فيجب أن تعرف مرجع عناصرها، وليس أكثر انتشاراً وألفة من الثقافة الجماهيرية كمرجع للنكات.

 
يقول أسطورة الكوميديا باستر كيتون: "التراجيديا هى اللقطة المقربة، بينما الكوميديا فهى اللقطة من بُعد"، وتتلخص تلك الفلسفة فى أنه كلّما اتسعت رؤيتنا للعالم الذى نراه كلّما ضحكنا، هذا ما يفعله تيار روجن بطريقته الخاصة، فقط أدركوا أن الثقافة الجماهيرية هى وسيلتهم لتوسيع عالمهم الهزلى لأنها عامل مشترك بين ملايين من البشر. 

ومن الطرائف حين استدعى روجن من قبل الكونجرس لإلقاء خطبة يشرح فيها مبادرته الخيرية للتوعية ضد مرض ألزهايمر، أن بدأ خطبته بذكر السبب الأول لتلبيته دعوة الكونجرس والمجىء لهذا المكان وهو أنه من أشد المعجبين بمسلسل House of Cards السياسى، مزحة جعلت قاعة الكونجرس ترتج بالضحك، ربما للمرة الأولى فى تاريخ المكان، بتلك الدرجة الهيستيرية، وهى قرينة أخرى على توظيف ظواهر الثقافة الجماهيرية فى خطابهم.

وبالرغم من بساطة الأفكار التى يطرحها هذا التيار، وتقليدية البناء القصصى، وتواضع اللغة السينمائية، إلا أنه توجد كثير من الإشارات على تمتعهم بثقافة سينمائية فنية، هذه الثقافة يمكن ملاحظتها بسهولة بالإضطلاع مثلا على قائمة أفلام جيمس فرانكو المفضلة بموقع "كرايتيرين" السينمائى ومقالاته النقدية عن الأفلام أوروبية بمواقع سينمائية أخرى، كما أن هذه الثقافة تظهر كثيراً فى نكات أفلامهم، فعلى سبيل المثال هناك ذلك المشهد الحوارى بفيلم Superbad الذى يدور حول أفلام البورنو التى لا تستهوى سيرا لضعف مستواها الفنى، فيتندّر عليه هيل قائلاً: "أعتذر لك لأن الأخوين كوين لم يخرجا تلك الأفلام!"  

وهناك مشهد آخر من نفس الفيلم يتجادل فيه سيرا مع هيل حول تاريخ الأخير مع العلاقات الجنسية، فأول فتاة يواعدها هيل وينجح فى مضاجعتها كانت الفتاة الأجمل والأكثر فتنة فى المدرسة، ثم بعدها لم ينجح فى أن يواعد أى فتاة أخرى واضمحل مؤشره بصورة دراماتيكية يُشَبهها فى هذا المشهد بمسيرة "أورسن ويلز" الإخراجية، التى بدأت بفيلم "المواطن كين" المصنف كواحد من أعظم الأفلام فى تاريخ السينما العالمية، ثم بعدها تعثرت مسيرته وواجهته صعوبات إنتاجية ولم يستطع تقديم الفيلم الذى يضاهى مستوى فيلمه الأول.

بعد أيام قليلة تستقبل دور العرض الأميركية فيلمهم الجديد بعنوان Sausage Party، وهو فيلم تحريك كارتونى اكتفت فيه المجموعة بالأداء الصوتى والتأليف، وتدور أحداثه حول رحلة السلع الغذائية والفواكه والخضروات من السوق التجارى إلى منزل أحد المستهلكين، واللافت هو دخول المجموعة لهذا العالم الفنى الجديد لأول مرة مُحتفظين بأسلوبهم ومفرداتهم الخاصة التى اشتهروا بها، أى أن الفيلم رغم كونه كارتونى إلا أنه للكبار فقط! يقوم روجن بالأداء الصوتى لقطعة نقانق على علاقة غرامية برغيف خُبز فرنسى تؤديه صوتياً الممثلة كريستين ويج، بكل ما فى الفكرة من ظُرف لا يخلو من إيحاء جنسى، إذن فالجنس موجود، والبذائة اللفظية أيضاً موجودة، وحتى المسحة العاطفية، فيكفى أنهم فى الطريق لجعلنا نتعاطف مع كائنات نسفحها يومياً وبدم بارد. حتى الاستعارة من الثقافة الجماهيرية موجودة وتظهر فى لقطة من إعلان الفيلم تُحاكى بسخرية مشهد شهير من فيلم Saving Private Ryan. 

تيار الكوميديا البذيئة، إذن، عائد بكل قوته وعلينا الاستعداد لجرعة جديدة من الضحك.